وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَصِيَّةِ لِلْمَيِّتِ، فَقَالَ قَوْمٌ: تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ; وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَبْطُلُ وَفِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ خَطَأً وَعَمْدًا.
فِي هَذَا الْبَابِ فَرْعٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ إِذَا أَذِنَ الْوَرَثَةُ لِلْمَيِّتِ هَلْ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِي ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ فَقِيلَ لَهُمْ، وَقِيلَ لَيْسَ لَهُمْ، وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَرَثَةُ فِي عِيَالِ الْمَيِّتِ أَوْ لَا يَكُونُوا، أَعْنِي أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ كَانَ لَهُمُ الرُّجُوعُ، وَثَلَاثَةُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَذْهَبِ.
الْقَوْلُ فِي الْمُوصَى بِهِ
وَالنَّظَرُ فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ أَمَّا جِنْسُهُ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ فِي الرِّقَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَنَافِعِ، فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: ذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ بَاطِلَةٌ.
وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي مَعْنَى الْأَمْوَالِ. وَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْمَنَافِعَ مُنتقِلَةٌ إِلَى مِلْكِ الورثة ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا مِلْكَ لَهُ فَلَا تَصِحُّ لَهُ وَصِيَّةٌ بِمَا يُوجَدُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَأَمَّا الْقَدْرُ: فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِمَنْ تَرَكَ وَرَثَةً. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَمْ يَتْرُكْ وَرَثَةً وَفِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَبِّ مِنْهَا، هَلْ هُوَ الثُّلُثُ أَوْ دُونَهُ؟
وَإِنَّمَا صَارَ الْجَمِيعُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَجُوزُ فِي أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِمَنْ لَهُ وَارِثٌ بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ عَادَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: قَدْ بَلَغَ مِنِّي الْوَجَعُ مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذْرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» ، فَصَارَ النَّاسُ لِمَكَانِ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُسْتَحَبِّ مِنْ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مَا دُونَ الثُّلُثِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» ، وَقَالَ بِهَذَا كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ. قَالَ قَتَادَةُ: أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ بِالْخُمْسِ، وَأَوْصَى عُمَرُ بِالرُّبْعِ، وَالْخُمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ.
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ الثُّلُثُ فَإِنَّهُمُ اعْتَمَدُوا عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَكُمْ فِي الْوَصِيَّةِ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ» وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ