للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَرَثَةِ فِيمَا ادَّعَوْهُ، وَمَا أَحْسَنَ مَا رَأَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا ادَّعَى الْوَرَثَةُ ذَلِكَ كُلِّفُوا بَيَانَ مَا ادَّعَوْا، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ أَخَذَ مِنْهُ الْمُوصَى لَهُ قَدْرَ الثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُوصَى بِهِ وَكَانَ شَرِيكًا لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثَ فَأَقَلَّ جُبِرُوا عَلَى إِخْرَاجِهِ.

وَإِذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْمُوصَى بِهِ هُوَ فَوْق الثُّلُثِ، فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الْوَرَثَةَ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ مَا أوصَى لَهُ بِهِ، أَوْ يُفْرِجُوا لَهُ عَنْ جَمِيعِ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ، إِمَّا فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، وَإِمَّا فِي جَمِيعِ الْمَالِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَهُ ثُلُثُ تِلْكَ الْعَيْنِ وَيَكُونُ بِبَاقِيهِ شَرِيكًا لِلْوَرَثَةِ فِي جَمِيعِ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ تَمَامَ الثُّلُثِ.

وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّ الْمَيِّتَ لَمَّا تَعَدَّى فِي أَنْ جَعَلَ وَصِيَّتَهُ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَهَلِ الْأَعْدَلُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ أَنْ يُخَيَّرُوا بَيْنَ إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ أَوْ يُفْرِجُوا لَهُ إِلَى غَايَةِ مَا يَجُوزُ لِلْمَيِّتِ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهُمْ مِنْ مَالِهِ أَوْ يَبْطُلَ التَّعَدِّي وَيَعُودَ ذَلِكَ الْحَقُّ مُشْتَرَكًا، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى إِذَا قُلْنَا: إِنَّ التَّعَدِّيَ هُوَ فِي التَّعْيِينِ لِكَوْنِهِ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ (أَعْنِي: أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَسْقُطَ التَّعْيِينُ) وَأمَّا أَنْ يُكَلَّفَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُمْضُوا التَّعْيِينَ أَوْ يَتَخَلَّوْا عَنْ جَمِيعِ الثُّلُثِ فَهُوَ حَمْلٌ عَلَيْهِمْ.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فَمَاتَ وَلَمْ يُوصِ بِهَا فَهَلْ هِيَ مِنَ الثُّلُثِ، أَوْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا لَمْ يَلْزَمِ الْوَرَثَةَ إِخْرَاجُهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ إِخْرَاجُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.

وَإِذَا وَصَّى، فَعِنْدَ مَالِكٍ يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ إِخْرَاجُهَا وَهِيَ عِنْدَهُ مِنَ الثُّلُثِ، وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْوَجْهَيْنِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ شَبَّهَهَا بِالدَّيْنِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ الْوَاجِبَةُ، وَالْحَجُّ الْوَاجِبُ عِنْدَهُ، وَمَالِكٌ يَجْعَلُهَا مِنْ جِنْسِ الْوَصَايَا بِالتَّوْصِيَةِ بِإِخْرَاجِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا فِي الْحَيَاةِ أَنَّهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَوْ كَانَ فِي السِّيَاقِ.

وَكَأَنَّ مَالِكًا اتَّهَمَهُ هُنَا عَلَى الْوَرَثَةِ (أَعْنِي: فِي تَوْصِيَتِهِ بِإِخْرَاجِهَا) ، قَالَ: وَلَوْ أُجِيزَ هَذَا لَجَازَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُؤَخِّرَ جَمِيعَ زَكَاتِهِ طُولَ عُمُرِهِ حتى إِذَا دَنَا مِنَ الْمَوْتِ وَصَّى بِهَا.

فَإِذَا زَاحَمَتِ الْوَصَايَا الزَّكَاةُ قُدِّمَتْ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى مَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا; وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ وَسَائِرُ الْوَصَايَا سَوَاءٌ، يُرِيدُ فِي الْمُحَاصَّةِ.

وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ عَلَى أَنَّ الْوَصَايَا الَّتِي يَضِيقُ عَنْهَا الثُّلُثُ إِذَا كَانَتْ مُسْتَوِيَةً أَنَّهَا تَتَحَاصُّ فِي الثُّلُثِ، وَإِذَا كَانَ بَعْضُهَا أَهَمَّ مِنْ بَعْضٍ قُدِّمَ الْأَهَمُّ. وَاخْتَلَفُوا فِي التَّرْتِيبِ عَلَى مَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِهِمْ.

وَمِنْ مَسَائِلِهِمُ الْحِسَابِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنِصْفِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثَيْهِ وَرَدَّ الْوَرَثَة الزَّائِدَ، فَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بَلْ يَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ بِالسَّوِيَّةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>