للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِنْسَانٌ بِيَدِهِ حَدِيدَةٌ مُدْمَاةٌ. إِلَّا أَنَّ مَالِكًا يَرَى أَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ فِي الْمَحَلَّةِ لَيْسَ لَوْثًا، وَإِنْ كَانَتْ هُنَالِكَ عَدَاوَةٌ بَيْنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ مِنْهُمُ الْقَتِيلُ وَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ هَاهُنَا شَيْءٌ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا لِاشْتِرَاطِ اللَّوْثِ فِي وُجُوبِهَا. وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهَا قَوْمٌ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ، وَبِهِ أَثَرٌ - وَجَبَتِ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ. وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ بِنَفْسِ وُجُودِ الْقَتِيلِ فِي الْمَحَلَّةِ دُونَ سَائِرِ الشَّرَائِطِ الَّتِي اشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ، وَدُونَ وُجُودِ الْأَثَرِ بِالْقَتِيلِ الَّذِي اشْتَرَطَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ بِهِ الزُّهْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ.

وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ، قَالَ: الْقَسَامَةُ تَجِبُ مَتَى وُجِدَ قَتِيلٌ لَا يُعْرَفُ مَنْ قَتَلَهُ أَيْنَمَا وُجِدَ، فَادَّعَى وُلَاةُ الدَّمِ عَلَى رَجُلٍ، وَحَلَفَ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا. فَإِنْ هُمْ حَلَفُوا عَلَى الْعَمْدِ فَالْقَوَدُ، وَإِنْ حَلَفُوا عَلَى الْخَطَأِ فَالدِّيَةُ. وَلَيْسَ يَحْلِفُ عِنْدَهُ أَقَلُّ مِنْ خَمْسِينَ رَجُلًا. وَعِنْدَ مَالِكٍ رَجُلَانِ فَصَاعِدًا مِنْ أُولَئِكَ. وَقَالَ دَاوُدُ: لَا أَقْضِي بِالْقَسَامَةِ إِلَّا فِي مِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَانْفَرَدَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ مِنْ بَيْنِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الْقَائِلِينَ بِالْقَسَامَةِ، فَجَعَلَا قَوْلَ الْمَقْتُولِ: فُلَانٌ قَتَلَنِي - لَوْثًا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ. وَكُلٌّ قَالَ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ شُبْهَةٌ يُوجِبُ الْقَسَامَةَ، وَلِمَكَانِ الشُّبْهَةِ رَأَى تَبْدِئَةَ الْمُدَّعِينَ بِالْأَيْمَانِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ الشُّبَهَ عِنْدَ مَالِكٍ تَنْقُلُ الْيَمِينَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَى الْمُدَّعِي؛ إِذْ سَبَبُ تَعْلِيقِ الشَّرْعِ عِنْدَهُ الْيَمِينُ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ لِقُوَّةِ شُبْهَتِهِ فِيمَا يَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَأَنَّهُ شَبَّهَ ذَلِكَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْأَمْوَالِ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ نَفْسَ الدَّعْوَى شُبْهَةٌ فَضَعِيفٌ وَمُفَارِقٌ لِلْأُصُولِ وَالنَّصِّ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعَاوِيهِمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَخُرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَمَا احْتَجَّتْ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ قِصَّةِ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ هُنَالِكَ أُسْنِدَ إِلَى الْفِعْلِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ.

وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ أَوْجَبُوا الْقَوَدَ بِالْقَسَامَةِ هَلْ يُقْتَلُ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَكُونُ الْقَسَامَةُ إِلَّا عَلَى وَاحِدٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ أَشْهَبُ: يُقْسَمُ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَيُقْتَلُ مِنْهَا وَاحِدٌ عَيَّنَهُ الْأَوْلِيَاءُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ الْمَخْزُومِيُّ: كُلُّ مَنْ أُقْسِمَ عَلَيْهِ قُتِلَ، وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: إِذَا شَهِدَ اثْنَانِ عَدْلَانِ أَنَّ إِنْسَانًا ضَرَبَ آخَرَ، وَبَقِيَ الْمَضْرُوبُ أَيَّامًا بَعْدَ الضَّرْبِ، ثُمَّ مَاتَ - أَقْسَمَ أَوْلِيَاءُ الْمَضْرُوبِ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ وَقِيدَ بِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>