فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَدَدُ مَرَّاتِ الْإِقْرَارِ الَّذِي يَلْزَمُ بِهِ الْحَدُّ.
وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَرْجِعَ عَنِ الْإِقْرَارِ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟
أَمَّا عَدَدُ الْإِقْرَارِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فَإِنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ يَقُولَانِ: يَكْفِي فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ اعْتِرَافُهُ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَبِهِ قَالَ أَبُو دَاوُدَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالطَّبَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَجِبُ الْحَدُّ إِلَّا بِأَقَارِيرَ أَرْبَعَةٍ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ.
وَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا» ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا.
وَعُمْدَةُ الْكُوفِيِّينَ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَّهُ رَدَّ مَاعِزًا حَتَّى أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِرَجْمِهِ» ، وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ. قَالُوا: وَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ أَقَرَّ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا تَقْصِيرٌ، وَمَنْ قَصَّرَ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَنْ حَفِظَ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ مَنِ اعْتَرَفَ بِالزِّنَى، ثُمَّ رَجَعَ - فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، إِلَّا ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانَ الْبَتِّيَّ. وَفَصَّلَ مَالِكٌ فَقَالَ: إِنْ رَجَعَ إِلَى شُبْهَةٍ قَبْلَ رُجُوعِهِ، وَأَمَّا إِنْ رَجَعَ إِلَى غَيْرِ شُبْهَةٍ فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يُقْبَلُ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ.
وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَأْثِيرِ الرُّجُوعِ فِي الْإِقْرَارِ؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ تَقْرِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاعِزًا وَغَيْرَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ. وَلِذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ سُقُوطَ الْحَدِّ بِالرُّجُوعِ أَنْ يَكُونَ التَّمَادِي عَلَى الْإِقْرَارِ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الْحَدِّ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ «أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا رُجِمَ وَمَسَّتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ فَاتَّبَعُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: رُدُّونِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -! فَقَتَلُوهُ رَجْمًا، وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: " هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ، فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ؟» ، وَمِنْ هُنَا تَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْحُدُودَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَدَمُ التَّوْبَةِ شَرْطًا ثَالِثًا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute