للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجِبُ الْيَمِينُ إِلَّا بِالْمُخَالَطَةِ، وَقَالَ بِهَا السَّبْعَةُ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ.

وَعُمْدَةُ مَنْ قَالَ بِهَا النَّظَرُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ؛ لِكَيْلَا يَتَطَرَّقَ النَّاسُ بِالدَّعَاوَى إِلَى تَعْنِيتِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَإِذَايَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَمِنْ هُنَا لَمْ يَرَ مَالِكٌ إِحْلَافَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا إِذَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا شَاهِدٌ، وَكَذَلِكَ إِحْلَافُ الْعَبْدِ سَيِّدَهُ فِي دَعْوَى الْعِتْقِ عَلَيْهِ.

وَالدَّعْوَى لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ فِي شَيْءٍ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَتِ في الذِّمَّةُ، فَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَرَاءَةَ مِنْ تِلْكَ الدَّعْوَى، وَأَنَّ لَهُ بَيِّنَةً - سُمِعَتْ مِنْهُ بَيِّنَتُهُ بِاتِّفَاقٍ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ اخْتِلَافٌ فِي عَقْدٍ وَقَعَ أو عَيْنٍ مِثْلِ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي عَيْنٍ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى اسْتِحْقَاقًا - فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلْ تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَّا فِي النِّكَاحِ، وَمَا لَا يَتَكَرَّرُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا تُسْمَعُ فِي شَيْءٍ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: تُسْمَعُ، أَعْنِي: فِي أَنْ تَشْهَدَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ مَالٌ لَهُ وَمِلْكٌ. فَعُمْدَةُ مَنْ قَالَ: لَا تُسْمَعُ - أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ فِي حَيِّزِ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ فِي حَيِّزِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْقَلِبَ الْأَمْرُ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُم عِبَادَةً.

وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ تُفِيدُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى كَوْنِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى فِيهِ مَوْجُودًا بِيَدِهِ؟ أَمْ لَيْسَتْ تُفِيدُ ذَلِكَ؟ فَمَنْ قَالَ: لَا تُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا - قَالَ: لَا مَعْنَى لَهَا، وَمَنْ قَالَ: تُفِيدُ اعْتَبَرَهَا.

فَإِذَا قُلْنَا بِاعْتِبَارِ بَيِّنَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَلَمْ تُثْبِتْ إِحْدَاهُمَا أَمْرًا زَائِدًا مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَرَّرَ فِي مِلْكِ ذِي الْمِلْكِ - فَالْحُكْمُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَقْضِيَ بِأَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَلَا يَعْتَبِرَ الْأَكْثَرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي أَوْلَى عَلَى أَصْلِهِ، وَلَا تَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ بِالْعَدَالَةِ كَمَا لَا تَتَرَجَّحُ عِنْدَ مَالِكٍ بِالْعَدَدِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تَتَرَجَّحُ بِالْعَدَدِ. وَإِذَا تَسَاوَتْ فِي الْعَدَالَةِ فَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ كَلَا بَيِّنَةَ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُدَّعِي وَوَجَبَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَاهِدَةٌ لَهُ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ دَلِيلَهُ أَضْعَفَ الدَّلِيلَيْنِ، أَعْنِي: الْيَمِينَ.

وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ الْخَصْمُ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى فِيهِ عَيْنًا فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَى مُدَّعِيهِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَالًا فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ يُكَلِّفُ الْمُقِرَّ غُرْمَهُ، فَإِنِ ادَّعَى الْعُدْمَ حَبَسَهُ الْقَاضِي عِنْدَ مَالِكٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ عُدْمُهُ إِمَّا بِطُولِ السِّجْنِ أَوْ الْبِينَةِ إِنْ كَانَ مُتَّهَمًا، فَإِذَا لَاحَ عُسْرُهُ خَلَّى سَبِيلَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: ٢٨٠] .

وَقَالَ قَوْمٌ: يُؤَاجِرُهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لِغُرَمَائِهِ أَنْ يَدُورُوا مَعَهُ حَيْثُ دَارَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ إِذَا جَرَحَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْحُكْمَ يَسْقُطُ إِذَا كَانَ التَّجْرِيحُ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَنْتَقِضْ عِنْدَ مَالِكٍ، وَقَالَ

<<  <  ج: ص:  >  >>