والأصل في هذه القاعدة إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما نقله ابن
الصباغ، وأن أبا بكر حكم في مسائل خالفه فيها عمر بن الخطاب، ولم ينقض حكمه، وعمر حكم في المشَّركة بعدم المشاركة ثم حكم فيها بالمشاركة بخلاف ما قضى في نظيرها قبلاً، ولم ينقض قضاءه الأول، وقال:
"تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي "، وقضى في الجد قضايا مختلفة.
وعلته أنه ليس الاجتهاد الثاني بأقوى من الأول، فيصح ما فعله بالاجتهاد
الأول، ويغير الحكم في المستقبل، وإلا فإنه يؤدي إلى ألا يستقر حكم، وذلك مشقة شديدة، فإنه إذا نقض هذا الحكم نقض ذلك النقض، وهلم جراً.
وهذا مبدأ قانوني أيضاً في محاكم النقض والإبرام والتمييز إذا تغير اجتهادها لا
يسري ذلك على الأحكام السابقة، ويسمى في اصطلاحهم "بعدم رجعية القوانين ".
وكذلك لا ينقض اجتهاد مجتهد بمجتهد آخر، بل كل مجتهد عليه أن يحترم اجتهاد الآخر لعدم المرجح بعد أن يستكمل المجتهد رتبة الاجتهاد في كل منهما.
وكذلك لو كان بين قاضيين، بأن قضى شافعي مثلاً في حادثة مجتهداً فيها بمذهبه، ثم رفعت لآخر حنفي مثلاً يرى فيها غير ذلك، لا يجوز له نقض قضاء الأول، بل يجب عليه تنفيذه، ويحكم في غيرها بما يراه.
وهذا، أي عدم جواز مخالفة قضاء القاضي السابق، فيما هو محل النزاع الذي ورد عليه القضاء، أما فيما هو من توابعه فلا يتقيد بمذهب الأول، فلو قضى شافعي بالبيع في عقار، فللقاضي الحنفي أن يقضي فيه بالشفعة للجار، وإن كان القاضي الأول لا يراها، وكذلك لو حكم قاض بصحة الوقف لا يكون حكماً بالشروط.
فلو وقع التنازع في شيء من الشروط عند من يخالف فيها، فله أن يحكم فيها بمذهبه، لأن ذلك ليس محل النزاع لدى القاضي الأول، كما لو حكم بالوقف ثم وقع التنازع