واستدلوا على مذهبهم بأدلة كثيرة نكتفي منها بما يأتي:
أولاً: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ووجه الدلالة من الحديث:
أن الإنسان لو تمكن من جمع الأدلة في مسألة معينة كان متمكناً من الوصول إلى العلم بحكم هذه المسألة من دليلها، فتركه إلى التقليد خلاف المعقول، وخلاف ما أفاده الحديث، لأن ما كان عن تقليد فيه ريب، وما كان عن دليل يكون خالياً من هذا الريب، فيكون المكلف مأموراً بالاجتهاد فيما حصّل فيه شروطه.
ثانياً: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (استفت نفسك ون أفتاك المفتون).
ووجه الدلالة من الحديث: أن في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - باستفتاء النفس ترجيح لاجتهاد الإنسان على اجتهاد غيره، فيجب العمل باجتهاده فيما يعن له من مسائل كملت أهليته للاجتهاد فيها.
ثالثاً: أن المجتهد في بعض المسائل يعرف الحكم فيها عن دليل منصوب من قبل الشارع، فيجب إتباعه ولا يسوغ له تركه بقول أحد، فثبت بذلك وجوب الاجتهاد فيما يمكنه.
رابعاً: لو لم يتجزأ الاجتهاد للزم أن يكون المجتهد عالماً بجميع المسائل، واللازم منتف، لأن كثيراً من المجتهدين قد سئل عن عدة مسائل فأجاب عن البعض ولم يجب عن البعض الآخر، ولم ينازع أحد في كونهم مجتهدين، فقد روي عن الإمام مالك أنه سئل عن أربعين مسألة فأجاب عن أربع وقال في الباقي: لا أدري.
المذهب الثاني: أن ذلك غير جائز، وأن العالم لا يقال له مجتهد إلا إذا أحاط بأدلة الفقه جميعها. وعلى ذلك بعض الأصوليين، منهم الإمام أبو حنيفة (١) والشوكاني وغيرهما.
قال الشوكاني: (إن العلماء قد اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له الحكم بالدليل حتى تحصل له غلبة الظن بحصول المقتضي وعدم المانع، وإنما يحصل ذلك للمجتهد
(١) قال ملا خسرو في "مرقاة الأصول" (٢/ ٤٦٨ - مرآة الأصول): (كونه غير مجزئ هو الصواب المروي عن الإمام لما مر في حد الفقه أن الفقيه هو الذي له ملكة الاستنباط في الكل).