للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَشَيْئًا حَتَّى لَبسَتْ وَجْهه، فزفر زَفْرَة خِلْتُ (١) أَنَّهَا خَرَقَتْ حِجَاب قَلْبه ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُول:

«آه مَا أشد الظَّلَام أَمَام عَيْنَيَّ وَمَا أَضْيَق الدُّنْيَا فِي وَجْهِي، فِي هَذِهِ الغُرْفَة، عَلَى هَذَا المقْعَد، تَحْت هَذَا السَّقْف، كُنْت أَرَاهُمَا جَالِسَيْنِ يَتَحَدَّثَانِ فَتُمْلَأ نَفْسِي غِبْطَةً وَسُرُورًا وَأَحْمَد اللهَ عَلَى أَنْ رَزَقَنِي بِصَدِيق وَفِيٍّ يُؤنِسُ زَوْجَتِي فِي وَحْدَتهَا، وَزَوْجَة سَمْحَة كَرِيمَة تُكْرِم صَدِيقِي فِي غَيْبَتِي.

فَقُولُوا لِلنَّاسِ جَمِيعًا أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُل الذِي كَانَ يَفْخَر بِالْأَمْسِ بِذَكَائِهِ وَفِطْنَته وَيَزْعُم أَنَّهُ أكْيَسُ النَّاس وَأُحْزَمهُمْ قَدْ أَصْبَحَ يَعْتَرِف اليَوْم أَنَّهُ أَبْلَه إِلَى الغَايَة مِنْ البَلَاهَة وَغَبِيّ إِلَى الغَايَة التِي لَا غَايَة وَرَاءَهَا.

والَهْفَا (٢) عَلَى أُمّ لَمْ تَلِدنِي وَأَبٍ عَاقِر لَا نَصِيب لَهُ فِي البَنِينَ.

لَعَلَّ النَّاس كَانُوا يَعْلَمُونَ مِنْ أَمْرِي مَا كُنْت أَجْهَل وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا إِذَا مَرَرْتُ بِهِمْ يَتَنَاظَرُونَ وَيَتَغَامَزُونَ وَيَبْتَسِم بَعْضهمْ إِلَى بَعْض أَوْ يَحْدِقُونَ (٣) إِلَيَّ وَيُطِيلُونَ النَّظَر فِي وَجْهِي لِيَرَوْا كَيْفَ تَتَمَثَّل البَلَاهَة فِي وُجُوه البُلْه وَالْغَبَاوَة فِي وُجُوه الأَغْبِيَاء.

وَلَعَلَّ الذِينَ كَانُوا يَتَوَدَّدُونَ إِلَيَّ وَيَتَمَسَّحُونَ بِي مِنْ أَصْدِقَائِي إِنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلهَا لَا مِنْ أَجْلِي، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَنِي فِيمَا بَيْنهمْ قَوَّادًا وَيُسَمُّونَ زَوْجَتِي مومِسًا وَبَيْتِي ماخورًا، وَأَنَا عِنْد نَفْسَيْ أَشْرَف النَّاس وَأَنْبَلهمْ!

فوارحمتاه إِنْ بَقِيتُ عَلَى ظَهْر الأَرْض بَعْد اليَوْم سَاعَة وَاحِدَة ووالهْفَا عَلَى زَاوِيَة


(١) خالَ الشيءَ: ظَنَّه. (لسان العرب مادة خيل).
(٢) يا لَهْفَهُ كَلِمَةٌ يُتَحَسَّرُ بها على فائِتٍ، ويقالُ يا لَهْفِي عليك، ويا لَهْفَ، ويا لَهْفَا، ويا لَهْفَ أرْضي وسَمائِي عليك، ويا لَهْفَاهُ، ويا لَهْفَتَاهُ، ويا لَهْفَتِياهُ. (القاموس المحيط، مادة لهف).
(٣) ينظرون.

<<  <  ج: ص:  >  >>