للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تقدّم الصليبيون، وهم مزيج من كلّ جنس إلى قرطبة وإشبيلية في القرن الثالث عشر الميلادي، ومن ذلك العهد أخذت قرطبة التي كانت في علياء المجد، تتقلّص وتتضاءل حتى صارت قرطبة التاسع عشر الميلادي قرية حقيرة. ودمّر هؤلاء الصليبيون كلّ آية من آيات العرب المسلمين في الأندلس وإن دقّت، كما دمّروا ذكريات فنونهم، حتى سوَّوْا كلّ ذلك بالتراب. نعم، بقيت هناك منارة صغيرة ولكنّها فخيمة، تسمى: (جيرالدا)، لتخبر العالم ماذا خسره في الأندلس. وقد عمد أولئك الهمج إلى الآلات العلميّة فحطموها وجعلوها رميماً، لأنّهم كما قال سكوت: "كانوا يعتقدون اعتقاداً جازماً، أنّ تلك الآلات خطرة، ويظنّون أنّها آلات جهنّمية لأعمال السحر واستخدام العفاريت". وأخرجوا الكتب، وكانت لا تحصى كثرةً، وجعلوها أكواماً في الأزقّة، وأوقدوا فيها النيران. وأسلمت القصور المشيدة الجميلة والحدائق البهيجة لأيدي الخراب والضياع. ولما رأى الملك الإسباني أنّه ليس له قصر ملكيّ في المدينة التي كانت أكثر المدن مساكن عالية وقصوراً فخيمة، أفاق مِن سِنته، وبعث في طلب الصنّاع المتفننين والعَمَلة من العرب المسلمين، فبنوا له: "الكزر" القصر الذي نزوره اليوم، وحجارته مثل المقصورة المسماة "مقصورة السفراء"، تخبرنا أن العرب المسلمين كانوا يعرفون كيف يعيشون.

استراح الإسبانيون قرنين كاملين إلى جوار العرب المسلمين، وبقي الشعبان عائشين في سلم وأمان كالأخوين، وكان الإسبانى بطبعه يحبّ أن يعيش مع جيرانه في سلام، ويعظّم الشعب الذي كان يراه بالغاً ذروة العبقرية. ولكنّ القسيسين الذين بلغوا في العصبية الحضيض الأسفل، كانوا يضادون ذلك الميل، فما زالوا يفتلون للحكام في الذروة والغارب، ويحرضونهم على عدم التسامح في المدن النصرانية الجديدة مع القوم الذين كانوا هم بناتها وهم مزيِّنوها، وأخيراً نجحوا في مطلبهم، وهو أنّ كلّ مسلم يوجد في بلدانهم


= فيمن يغزوهم، والصليب يشفع له وينقذه من آثامه وظلمه.
(جوزيف ماك جب في كتابه: حضارة العرب في الأندلس ص: ٦٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>