للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سنّ أحد الخلفاء - وكان ديِّناً - قانوناً يقضي ببناء مسجد في كل اثني عشر بيتاً، ونفذ قانونه، إلاّ أن الظرف والّلطف كان هو الغالب. وأكثر الناس كانوا يلتزمون بالعبادات الإسلامية التي ينص عليها الإسلام، ولكن لم يكونوا متعمقين في أصولها النسكية التقشفيّة. فلا دمشق ولا بغداد وحتى إنطاكية في أوج مجدها، لم تكن مركزاً للسرور مثل ما كانت قرطبة، في حين كانت أوروبا متدثرة بالخرافات الموحشة، ولم تكن في الدنيا قط بلاد أسعد ولا أجمل ولا أنعم عيشة من الأندلس في القرون الثلاثة: العاشر والحادي عشر والثاني عشر للميلاد.

وأعظم مزية يمكننا أن نمدح بها عرب الأندلس، هو أن نذكر أنّ شغفهم بالشهوات واستهتارهم بالّلذات، كان متّحداً على نسبة سواء مع ولوعهم بالتمتع بالعلوم العقلية والمعارف الدقيقة المحقّقة التي كانت منتشرة بصورة أوسع مما كانت عليه في روما أو أثينا. ولم يكِن في الدّنيا كلها، ولا هو كائن اليوم، بلد يكرم فيه العلماء والأدباء ويُكافَؤون بالجوائز مثل ما كان في الأندلس. ولم يكن في الدنيا بلد غير الأندلس، يحوي خزائن الكتب العجيبة والمدارس والكليّات العامرة، وجمعاً عظيماً من خيرة الكتّاب البلغاء، وذوقاً عاماً في المباحث العقلية مثل ما كان في الأندلس، والحلقات أو الدوائر الصغيرة من الرجال والنساء المهذبين الذين كانوا في إيطاليا يبحثون في الفنون والآداب في بدء النهضة، إنما كانت تقليداً ضئيلاً للعرب.

[٤ - علوم العرب وآدابهم:]

هناك حقيقة محزنة ودليل يملأ النفس غمّاً وأسىً، يدلّ على أنّ الفكر البشري لا يزال ناقصاً وبعيداً عن الترقّي الحقيقي، وذلك أن الذين يعرفون كيف يعيشون في كل عصر قليل، وبعد مضي ملايين السنين على وجود الإنسان، وستة آلاف سنة على حدوث المدنيّة والشعور بالوجود، ونحن الآن نختصم في ما هو المثل الأعلى للمعيشة، وأكثر الناس لا يعرفون كيف

<<  <  ج: ص:  >  >>