فلما نزل طارق من الجبل بالجيش الذي معه، كتب تُدْمِير إلى لذريق الملك، أنه قد وقع بأرضنا قوم لا ندري من السماء هم أم من الأرض، فلما بلغ ذلك لذريق، رجع عن مقصده في سبعين ألف فارس، ومعه العَجَل يحمل الأموال والمتاع، وهو على سريره بين دابتين عليه قبّة مكلّلة بالدّر والياقوت والزبرجد. فلما بلغ طارقاً دنوُّه، قام من أصحابه، فحمد الله سبحانه وتعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثمّ حثّ المسلمين على الجهاد، ورغبهم في الشهادة، ثمّ قال:
"أيها الناس، أين المفر، والبحر من ورائكم والعدو أمامكم؟ فليس لكم والله إلاّ الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللِّئام. وقد استقبلكم عدوّكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وَزر لكم غير سيوفكم، ولا قوت لكم إلاّ ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم. وإن امتدّت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمراً، ذهبت ريحكم، وتعوّضت القلوب برعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية (١)، فقد ألقت به إليكم مدينته المحصّنة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم بأنفسكم للموت، وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنَجْوة، ولا حملتكم على خطّة أرخص
(١) في طبعة بولاق (٢/ ١٧٧ - ١٧٨): هذه الطاغية، وكذلك في النسخة (ب) من هذا الكتاب.