وكانت خزائنهم المالية عظيمة بالنسبة إلى عصرهم، إلى حدّ أنهم كانوا يسيطرون على الدنيا كلّها من الوجهة المالية، وقد عرفوا كيف ينفقون أموالهم على فنون المعيشة، إلى حدّ لم يصل إليه إلاّ قليل من الأمم. وقصور الأشراف وأصحاب المناصب والأدباء، كانت تقارب في الفخامة والسعه قصور الخلفاء، وحتى منازل أرباب الحوانيت كان لها جمال ورفاهية محتها أعاصير النكبة التي أنزلها الإسبانيون بالأندلس. وعلاوة على ذلك، مئات من الحمامات المحشاة أطرافها بالمرمر والفسيفساء، والحدائق العامة البديعة التي كانت ممتدة على شاطئ الوادي الكبير، كانت نعمة ورفاهية للناس جميعاً من الخليفة إلى أدنى الطبقات. وفي كل أمر من تفاصيل معيشتهم، أبدَوْا سلامة ذوق لا يمكننا نحن أن نأتي بها. والعشرون ضاحية التي كانت حول المدينة، لم تكن أسماؤها: (بوت فيل Potts Ville) و (نيوتن Newton) ، بل كانت أسماؤها هكذا: وادي الفردوس، والوادي الجميل، وحديقة العجائب، وهكذا. ولقد صدقوا، فإنها كانت كذلك، وكانت مبثوثة بينها المنازل البيض المشرفات، وحولها غابات الأترج والنخيل والسرو الواسعة وروضات الأزهار الفضَّة الباقية طول السنة، تجري من تحتها الأنهار والجداول فالبحيرات والعيون، والمخابئ، والمغارات، وصفوف الأشجار، وكل فكرة عند الفلاحين المتخصصين في الغرس والزراعة، وقد استعملت هناك مما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين. وإذا عبرت النهر على الجسر العجيب الذي يبلغ طوله (١٢٠٠) قدم وارتفاعه فوق الماء (٩٠) قدماً، تجد ضاحية حفت بالحدائق البهيجة والروضات الجميلة، تسحر الألباب ببهائها، ولو لم يكن هناك سواها، لكانت المثل الأعلى في المدن.
وإذا انقضى العمل في كلّ يوم، كانت قرطبة ترى معترك ضحك وغناء وذنوب يفوح عطرها، ومباحثات عقلية دقيقة وموسيقى شجيّة بجميع الآلات التي كانت معروفة لذلك العهد. وكان العباد والزهاد في قرطبة كثيراً، لأنها كانت تحوي أعظم المعابد العلميّة والدينية وفطاحل العلماء في الدنيا، وقد