والمغني الخاص لعبد الرحمن الثاني كان أديباً من أعاجيب الزمان؛ وكان مرتبه (٤٠٠٠٠) دينار من الذهب في كل سنة، وهو أكثر من مرتب رئيس الولايات المتحدة. وهذا النعيم الذي لم يمض عليه إلاّ أقل من خمسمائة سنة، لم يحفظ منه الإسبانيون مثقال ذرّة. وكان يصبّ في خزائن الملك كل سنة، نهر مفعم من الذهب، فيفيض منها على الأشراف والأمراء والأدباء والعلماء وكبار التجار وغيرهم. وكانت القصور الفخمة ممتدّة على شاطئ الوادي الكبير مسافة عشرة أميال، وكانت أسواقها أغنى أسواق الدنيا، فلم يسمع سامع بشيء من التوابل أو العطور أو المنسوجات الفاخرة أو الكتب الخطية النادرة أو البُسط والزّرابي البديعة أو آلات اللهو في أي ناحية من أرجاء الدنيا، إلاّ وقد جلبت إلى تلك الأسواق. وحال أمريكا اليوم بالنسبة إلى الدنيا القديمة، هي حال الأندلس في ذلك الزمان بالنسبة إلى غيرها من البلاد، ولكن الأندلس كانت أعظم من وجهة المدنيّة. وكانت الحدائق العامة المعدّة للتنزه نزهة للأبصار، وستعلم شيئاً من ولوع العرب بالحدائق والجنّات، إذا رأيت الحديقة المعروفة بالقصر في إشبيلية، وكان العرب يتوخون الجمال في كل شعبة من شُعب المعيشة.
والعرب أنفسهم كانوا صنّاعاً ماهرين في الأدوات المعدنية والجلدية، وأحسن المنسوجات الحريرية والكتانية. وكانوا يصنعون الفسيفساء العجيبة، وينقشون النقوش الجميلة على الأواني المنزلية. وكانت لهم مهارة عظيمة في دهن الأواني الخزفية، وكانوا حاملي لواء زخرفة داخل البيوت والقصور وزينتها، وبلغوا في ذلك درجة عالية لم يعرفها أحد في الدنيا غيرهم، وكانت لهم معادن كافية من الرخام والمرمر، ومع ذلك كانوا يجلبون المرمر من اليونان وإيطاليا وإفريقية. وكانت سفنهم تجلب المقادير العظيمة من خشب السدر والعاج والأبنوس وأحسن التوابل والطيب الذي يمدهم به الشرق، وكانوا يجلبون من هناك الذهب والفضة والمجوهرات والمحار والحجر الشفّاف وحجر اللآزورد وجلود السلاحف وكل مادة معروفة من مواد الزينة.