الدنيوية، وظروف الأسرة، ودواعي العيش، تغلب على كلّ الاعتبارات الأخرى، وكان تسامح النصارى في البداية، وتركهم رعاياهم المسلمين، يتمتعون بتطبيق شريعتهم وأحكام دينهم فيما بينهم - كما ذكرنا - يخفف عن أولئك المدجّنين مرارة الانسلاخ عن مجتمعهم القديم، والانتماء إلى المجتمع النصراني. ولكن هذا الوضع أخذ يتبدّل منذ اتّسع نطاق التوسع النصراني في الأندلس، وزاد بذلك عدد المدجنين في مختلف المناطق الإسبانية المستولى عليها، وكانت الكنائس تبغض هذه الطوائف الإسلامية القائمة في قلب المجتمع النصراني، وتنقم على المدجنين هذه الدعة وهذا التسامح، وترى في احتفاظهم بدينهم ولغتهم نوعاً من التحدي المذموم، وتأخذ على ملوك قشتالة وأراغون تسامحهم في معاملتهم، وتسعى جاهدة لتحريضهم على اتباع سياسة الانتقام والعنف، إزاء أولئك الرعايا المسالمين. ومنذ أوائل القرن الثالث عشر تتوالى أوامر البابوية وقراراتها ضد المدجّنين، والحث على استرقاقهم أو تنصيرهم، ومن ذلك ما أمر به البابا أنُسنت الرابع في سنة ١٢٤٨ م، ملك أراغون خايمي الأول، من وجوب استرقاق المسلمين في الجزائر الشرقية، ولكن خايمي لم يأبه بذلك الأمر. ولما استولى النصارى على ثغر بلنسية في سنة ١٢٣٨ م، سمح للمسلمين أن يبقوا فيه كمدجّنين. وكان ملوك قشتالة وأراغون يعارضون هذه السياسة العنيفة، لبواعث وأسباب تتعلق بمصالحهم القومية ورخاء بلادهم، لأن المدجنين كانوا بين رعاياهم أفضل العناصر بين رعاياهم وأنشطها وأكثرها دأباً ومثابرة وأوفرها تأدية للضرائب، وكانوا الساعد الأيمن للنبلاء في زراعة أراضيهم واستغلالها، وكانوا يستأثرون بالتفوّق في العلوم والفنون والمهن، وكانوا أبرع الأطباء والمهندسين والبنائين، وكان لهم الفضل الأول في إدخال محاصيل عديدة في إسبانيا النصرانية، مثل القصب والقطن والأرز والتين والبرتقال واللّوز وغيرها، ومازالت مشاريع الرّي التي أنشأوها، ولاسيما في مناطق إسبانيا الشرقية والشمالية الشرقية، تشهد بعبقريتهم في هذا المضمار. وهم الذين