[دلالة حديث الجارية على العلو لله سبحانه والرد على من أنكره]
والحقيقة أن صفة العلو لا تفتقر إلى هذين الحديثين، وهناك أحاديث كثيرة تدل على ذلك، منها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه، عن معاوية السلمي رضي الله عنه، عندما ضرب جاريته فصكها بسبب أنه جاء فوجد الذئب قد أخذ واحدة من الشياه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم نادماً على فعله، وفيه: (فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة).
وهذا حديث صحيح ذكره الذهبي هنا، وهو في كتاب مختصر العلو للعلي الغفار بتحقيق الشيخ الألباني، والأصل قد طبع، لكن المختصر اشترط فيه الشيخ رحمه الله أنه لا يورد فيه إلا ما صح إسناده عنده، وهذه الطبعة فيها رداءة لكن يمكن الاستفادة منها.
فأول حديث نقله من أحاديث العلو هو هذا الحديث، حديث معاوية بن الحكم السلمي، قال: (كانت لي غنم بين أحد والجوانية، وهي موضع قرب المدينة فيها جارية لي -وفي بعض الألفاظ: سوداء كما رواه الدارمي في الرد على المريسي بسند صحيح- فأطلعتها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة، وأنا رجل من بني آدم، فأسفت، -يعني: غضبت- فصككتها -يعني: ضربتها ضرباً شديداً- فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ادعها، فدعوتها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة).
هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وغير واحد من الأئمة في تصانيفهم، يمرونه كما جاء، ولا يتعرضون له بتأويل ولا تحريف.
وهذا الحديث فيه عدة فوائد: الفائدة الأولى: جواز السؤال عن الله عز وجل بأين، فإذا قال الإنسان: أين الله؟ فإنه يجاب: في السماء.
الثانية: جواز أن يقول المسئول: إنه في السماء، يعني: على السماء، وهذا فيه إثبات صفة العلو لله تعالى.
والحديث إسناده ثابت وقوي؛ ولهذا يعتبر هذا الحديث حجة على المبتدعة، لكن أهل البدع اتخذوا في رد هذا الحديث وسيلتين: الوسيلة الأولى: الإقرار بصحته وتأويل معناه.
والوسيلة الثانية: محاولة القدح في صحته.
أما الوسيلة الأولى: فقال بعض أهل البدع: إن هذا الحديث ليس صريحاً في إثبات العلو؛ لأن قول الجارية: (في السماء)، المقصود أن الجارية عظمت الله عز وجل، وأنها أرادت أن تبين للنبي صلى الله عليه وسلم أن منزلة الله عندها عظيمة، فقالت: (في السماء)، مثلما تقول لشخص: كيف فلان؟ فيقول لك: في السماء، يعني: وارتفعت مكانته.
ولا شك أن هذا تأويل فاسد لا حاجة إليه، وتكلف وتعسف ظاهر، لا يدل عليه دليل من نص الحديث.
وذكر أن أحد أهل البدع ناقش بعض أهل السنة في حديث النزول، فأقر بصحة حديث النزول، ثم أوله بأنه نزول أمره، فقال له هذا الرجل الذي من أهل السنة: ينزل أمره؟ قال: نعم، قال: من أين ينزل؟ قال: من العلو، قال: إذاً: أنت تثبت أن الله في العلو، يعني: ألزمه بإثبات العلو بعد أن أول النص؛ لأنه قال: ينزل أمره، يعني: دع عنك مناقشة هذا المبتدع في إثبات صفة النزول، فإثبات صفة النزول مرحلة ثانية، لكن نقول له: ما دام أنك أولت الحديث بأنه ينزل أمره، فهذا دليل على أنك معترف بأنه في السماء، وأن أمره ينزل من السماء إلى الأرض؛ لأنه إذا كان ينزل أمره وهو ليس في السماء فما فائدة: (ينزل) فستقول: جاء أمره، سواء من هنا أو من هنا أو من أسفل أو من فوق، لكن قولك: (ينزل)، دليل على أنك اعترفت بالعلو.
ثم نأتي بعد ذلك نناقشه في مسألة تأويله للنزول وإبطال قوله، هذا العمل الأول الذي يقوم به أهل البدع.
والأمر الثاني: من تأويلاتهم أنهم قالوا: إن هذا
السؤال
أين الله؟ وقول الجارية: في السماء، المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم سألها كيف تتوجهين في دعائك، فأخبرته أن قبلة الدعاء السماء، كما أن قبلة المصلي الكعبة، وليس هناك ما يثبت أنه في السماء، وكما قلت: وهذا تأويل أيضاً متكلف وظاهر.