[معنى دليل منع حلول الحوادث والرد عليه بالجملة]
الشبهة الثالثة: هي شبهة منع حلول الحوادث بذات الله عز وجل.
وهذه الشبهة نفوا بها الصفات الفعلية، مثل صفة النزول، والاستواء، وصفة المجيء، والإتيان، ونحوها من الصفات الفعلية، وهي التي يفعلها الله عز وجل متى شاء وكيف شاء، على الوجه الذي يشاؤه سبحانه وتعالى.
قالوا: هذه الصفات لا يصح أن يوصف الله عز وجل بها؛ لأنها تستلزم حلول الحوادث بذات الله، والحال هنا هو نفس الحال هناك، نقول: ماذا تعنون بالحادث؟ قالوا: نعني بالحادث وجود الشيء بعد أن لم يكن موجوداً، قالوا: فإذا قلنا ينزل الله عز وجل هذه الليلة، ثم ينزل الليلة التي بعدها، فنزوله الليلة التي بعدها لم يكن موجوداً سابقاً فيلزم منه وجود حادث في الله عز وجل، وهذا لا يصح أن يوصف به الإله سبحانه وتعالى.
قلنا: هذا باطل؛ فإن الله عز وجل وصف نفسه بهذه الصفات، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سميتموه أنتم معنى حادثاً، وهو وجود هذه الصفة بعد أن لم تكن موجودة لا نقص فيه بالنسبة للإله، فلا مانع من أن يتكلم الله عز وجل الآن، ويتكلم بعد سنة، ويتكلم يوم القيامة، ويتكلم إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وليس فيه نقص.
قالوا: هذه فيها حدوث بذات الله، قلنا: هذه الكلمة جديدة لم نعرفها في النصوص الشرعية، فماذا تعنون بالحدوث؟ قالوا: الحدوث هو وجود الشيء بعد أن لم يكن موجوداً.
قلنا: ولا مانع منه حتى لو وجد الشيء بعد أن لم يكن موجوداً سابقاً؛ لأن الله عز وجل له إرادة يفعل الشيء متى شاء سبحانه وتعالى، في الوقت الذي يشاء.
قالوا: لكن أنتم إذا قلتم بهذا القول فمعنى هذا أنكم تبطلون حدوث العالم! قلنا: وماذا تعنون بحدوث العالم؟ إذا كنتم تعنون أن العالم مخلوق فإن صفة الله عز وجل التي تكون بعد أن لم تكن موجودة سابقاً ليست خلقاً، وإنما هي صفة يفعلها الله عز وجل في الوقت الذي يشاؤه سبحانه وتعالى، والعالم مخلوق وهو أثر من آثار خلق الله عز وجل له، والمخلوق ليس كالخالق.
ولهذا فإن اضطراب المصطلحات عند هؤلاء جعلهم يتلاعبون بالنصوص الشرعية، بناء على مصطلحاتهم التي استخدموها، فهم جاءوا إلى المنكرين لوجود الله عز وجل، فأرادوا أن يثبتوا لهؤلاء المنكرين وجود الله عز وجل، فركبوا لهم دليلاً صعباً غامضاً وعر المسالك، فيه فقرات يخالفهم فيها كثير من العقلاء، وسموه دليل حدوث العالم، هذا الدليل دليل يتيم عندهم، وهو أبرز دليل من أدلة أهل الكلام على إثبات وجود الله عز وجل، فأي قدح في هذا الدليل بأي وجه من الوجوه ينفونه دفاعاً عن هذا الدليل.
ولهذا عندما تحدث الإمام الشاطبي رحمه الله في كتاب (الاعتصام) عن مأخذ أهل البدع في الاستدلال ذكر قاعدة لطيفة جداً، وهي: أن أهل البدع يقعدون المسألة التي يريدونها ويقررون فيها حكماً قبل النظر في الكتاب والسنة، ثم ينظرون في الكتاب والسنة، فما وجدوا أن ظاهره يخالف ما ذكروه وما أصلوه أولوا نصوص الكتاب والسنة حتى توافق ما أصلوه وقعدوه.
وهذا تلاعب بالكتاب والسنة، وهذا لاشك أنه ضعف في التسليم للكتاب والسنة، فالله عز وجل يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥].
والله عز وجل يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧].
ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:٦٠] وهو أهواؤهم وعقولهم، {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:٦٠].
إذاً: لا يصح للإنسان أبداً أن يقعد القاعدة ويطلق فيها الحكم قبل النظر في الكتاب والسنة.
هؤلاء جاءوا وأرادوا أن يثبتوا وجود الله بالعقل، فقعدوا هذا الدليل الذي سموه دليل الأعراض، أو دليل حدوث العالم، وكل صفة من الصفات تعارض هذا الدليل في الظاهر فإنهم يؤولونها ويحرفونها عن معناها الحقيقي، وكان الواجب ألا يعتمدوا على دليل واحد، لأن وجود الله عز وجل أمر واضح، ومن حكمة الله عز وجل أن الشيء إذا كان واضحاً هيأ له أسباباً كثيرة جداً غير محصورة، فهل تتصورون قضية حساسة مثل قضية وجود الإله لا يكون عليها دليل إلا دليلاً واحداً يخترعه أبو الهذيل العلاف من المعتزلة، ويقلده عامة المعتزلة فيه، ثم يصير إليه عامة الأشاعرة؟ فهل كان أبو بكر الصديق لا يعرف هذا الدليل وغيره من الصحابة ومن أهل العلم، حتى تأتوا أنتم وتستدلوا بهذا الدليل، وقد ناقشوا المشركين وناقشوا الملاحدة وبينوا لهم الحق بدون هذا الدليل؟ ثم إن موضوعاً كموضوع إثبات وجود الله عز وجل من الوضوح بحيث إنه لا يجوز أن يكتفى