المسألة الثالثة: هل تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم في العقيدة أم أهملها؟ لأننا نرى أن كثيراً من المتأخرين من أهل الكلام ومن الصوفية ومن الفلاسفة ومن العصرانيين الجدد يتكلمون في العقائد بعيداً عن النصوص الشرعية من كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن نتساءل: هل النبي صلى الله عليه وسلم وضح أمر العقيدة والإيمان بالله في أسمائه وصفاته وأفعاله وعبادته وفي أمر القدر والغيبيات، وفي أمر الموالاة والمعاداة وغير ذلك من الأمور المهمة المتعلقة بهذه الأمة، أم أهملها؟! وللجواب على هذا السؤال نقول: لقد تضمنت رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان الحق في أصول الدين وفروعه، والدليل على ذلك قول الله عز وجل:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:٣٣]، والهدى المقصود به: العلم الصحيح النافع، ودين الحق المقصود به: العمل الصالح، وهذا العمل الصالح لا يكون صالحاً إلا بتحقيق المتابعة للرسول صلى لله عليه وسلم، وإخلاص العمل لله سبحانه وتعالى.
فرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت متضمنة لبيان الحق في أصول الدين وفروعه، وفي المسائل وفي الدلائل، ولهذا يقول الله عز وجل:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:٣٨]، ويقول الله عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}[المائدة:٣]، وسيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بكل شيء، وما ترك طائراً يقلب جناحيه في السماء إلا ترك لأصحابه رضوان الله عليهم منه خبراً، وسيأتي معنا مجموعة من الأدلة عند قراءتنا للمقطع الذي يتعلق بيقينية منهج السلف رضوان الله عليهم، وهذه الأدلة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه كل شيء، حتى آداب قضاء الحاجة، فقد علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب أحدهم إلى الخلاء ماذا يقول، وإذا خرج من الخلاء ماذا يقول، وإذا نام ماذا يقول، وإذا استيقظ ماذا يقول، وإذا جامع زوجته ماذا يقول، فهل تتصورون أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم أصحابه هذه الأمور الدقيقة ولم يعلمهم الأمور العظيمة التي فيها صلاح عقائدهم وصلاح دينهم، ومعرفتهم لربهم وخالقهم سبحانه وتعالى؟ وهل تتصورون أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه آداب قضاء الحاجة ولم يعلمهم الصفات حتى احتجنا إلى مصدر آخر نأخذ منه الصفات؟ لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم شرح لأصحابه أمور العقائد شرحاً مفصلاً أكثر من أي باب من أبواب الدين الأخرى؛ لأنها هي الأصول والقواعد الأساسية التي يرتكز عليها الدين، فهل تتصورون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه صفات الملائكة وصفات الرسل والكتب السابقة ويعرض عن صفات المعبود التي تتوق إلى معرفته كل نفس صالحة طيبة؟ لا يمكن أن يعرض عن ذلك.
إذاً: عندما ندرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم أصحابه الأمور اليسيرة فلا شك أنه علمهم الأمور العظيمة من باب أولى، وهذا قياس صحيح قوي، وهو الذي يسميه أهل العلم: قياس الأولى.
وكذلك يستحيل أن يهمل الرسول صلى الله عليه وسلم بيان الحق المغني في باب الأسماء والصفات وفي باب أفعال الله عز وجل وعبادته، ويدل على ذلك عدة أمور: الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه القرآن، ووصف الله عز وجل هذا القرآن بأنه نور، وأنه هدى، وأنه شفاء، وأنه روح، وهذه الأسماء تدل على موصوفات هي وصف للقرآن الكريم، فلا يمكن أن يكون روحاً وهو لم يبين الأسماء والصفات، ولا يمكن أن يكون نوراً وهو لم يبين الأسماء والصفات، ولا يمكن أن يكون هدى وهو لم يبين الأسماء والصفات.
ونستنبط من أسماء القرآن الكريم وما بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن ما يدلنا على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضح العقيدة توضيحاً كافياً شافياً لا إشكال فيه.
الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه كل شيء، ومن ذلك الأمور الصغيرة، فالأمور الكبيرة من باب أولى.
الأمر الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بربه، وهو أكثرهم بياناً وأبلغهم فصاحة، وهو أنصحهم لهذه الأمة، فلا يمكن أن تجتمع هذه مع كتمه لبيان العقيدة لهم؛ لوجود العلم عنده، لوجود البيان والفصاحة عنده، ولوجود المحبة والنصح للأمة؛ فينتج عن هذه الثلاث المقدمات استحالة عدم بيان النبي صلى الله عليه وسلم للعقائد الصحيحة، فلا يمكن أن يبقي الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر مشتبهاً ملتبساً على الناس.