[استحالة أن يكون الخلف أعلم من السلف]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف، إذا حقق عليهم الأمر، لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقفوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته].
المقصود بالمتهوك: الذي يتكلم بدون علم، وإنما يتكلم بالظن فقط.
قال المؤلف رحمه الله: [كيف هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب آياته وذاته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة، ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة - لا سيما العلم بالله وأحكام آياته وأسمائه - من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم، أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟!].
هذا الكلام سبق معناه، وسبق ما يدل على ما تضمنه من تعظيم السلف رضوان الله عليهم، عندما تحدثنا في النقطة الأولى وهي عصمة منهج السلف رضوان الله عليهم، وقلنا: إن أهل الكلام لا يعظمون السلف، بل إن بعضهم يحتقر علوم السلف، ويرى أنهم من السطحيين والنصيين الذين لم يشتغلوا بالعقليات، ولم يمحصوا فيها، وأن العقليات انفرد بها هؤلاء المتأخرون، وبعضهم يجعل السبب في كون السلف لم يشتغلوا بالعقليات أنهم كانوا يشتغلون بالجهاد في سبيل الله، فيقول: إنهم انشغلوا بالجهاد، ويرى أنهم كعوام الصالحين الذين يصلون في المسجد في الصف الأول ويعتنون بالعبادة.
مع أن السلف أكثر حكمة وعلماً وإدراكاً وفهماً واستنباطاً وتحليلاً للقضايا ومناقشةً لها أكثر من هؤلاء بمراحل كثيرة متعددة، ولهذا فإن هؤلاء لم يأتوا بشيء جديد، إنما قرءوا تراث الأمم الأخرى، وناقشوه واحتاروا فيه، ثم رجع بعضهم إلى السنة مرة أخرى، أما أهل الإسلام وأهل العلم وأهل الحديث والصحابة والتابعون، فاستطاعوا أن يدلوا الأمة ويرشدوها في قضايا العقائد الكبرى إلى أوضح دليل وأصح منهج، ولم يتناقض منهجهم منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، ولا يستطيع أحد أبداً أن يشير أو يذكر تناقضاً وقع فيه الصحابة أو التابعون أو من جاء بعدهم.
حتى في مسائل الفقهيات ما يحصل من خلاف إلا وله ما يبرره، وله قواعده التي تنظمه وتضبطه، بينما هؤلاء ليس لديهم قواعد تضبطهم، وليس لديهم انضباط في النظر، ولهذا تجدهم يختصمون، فتجد بعضهم ينقض أصل قوله من أساسه وهو لا يشعر، فـ الرازي مثلاً في كتابه الأربعين في أصول الدين ناقش مسألة أفعال الله الاختيارية، وعامة مذهب أهل الكلام هو نفي أفعال الله عز وجل وصفاته الاختيارية، ويقولون: إن السبب في ذلك هو أنه يلزم من إثبات أفعال الله الاختيارية حلول الحوادث بذاته.
فالرازي تكلم في كتابه الأربعين وقال: إن حلول الحوادث بذات الله لازم لكل طائفة، ثم ذكر المعتزلة وبين لزومهم له، وذكر الأشاعرة وبين لزومهم له، وذكر غيرهم من الطوائف، وهذا يدل على أنهم متناقضون، ولهذا عندما ذكر الرازي هذه المقالة أخذ ينسف أصلاً عظيماً جداً من أصولهم وهو دليل حدوث الأجسام الذي استدلوا به على وجود الله عز وجل، فإما أن تبطل الدليل، وإما أن ترجع عن هذا الكلام الذي ذكرته، وهو أن كل طائفة يلزمها حلول الحوادث بذات الله عز وجل.
ولهذا تجد بعض هؤلاء يذكر المسائل ولا يذكر لها جواباً، يعني: لا يذكر فيها اختياراً، بل ينقل وينقل ثم يهمل الموضوع ويتركه، مع أنه موضوع حيوي وحساس يتعلق بقضايا العقائد وفي موضوع الله عز وجل ذاتاً ووجوداً وأسماءً وصفاتٍ وألوهيةً وعبوديةً.
قول شيخ الإسلام رحمه الله: (أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان)، هذا فيه إشارة مهمة إلى أن كثيراً من عقائد الفرق الضالة لها أصول من الأديان السماوية المحرفة، أو الأديان التي هي من أديان المشركين، كأديان الهند واليونان وغيرهم، سواء كان هذا التأثر في الأقوال والعقائد نفسها، أو كان في الطريقة التي اتبعوها، أو كان ذلك في التعامل مع الكتب المقدسة، فمثلاً نجد أنهم تأثروا بالمتفلسفة في الاعتماد على العقل واتخاذه مصدراً للتلقي، وتهوين النصوص الشرعية، وأيضاً اعتمدوا عليه في شبهة كبيرة من شبهاتهم في نفي الصفات، وهي شبهة التركيب، ولهذا يقول