[نفي المبتدعة ما لا تثبته عقولهم من العقائد]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هم ها هنا فريقان، أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه.
ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم -الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافاً أكثر من جميع من على وجه الأرض- فانفوه].
بعد أن بيّن شيخ الإسلام رحمه الله أن مصدر هؤلاء في تلقي العقائد هو العقل من جهة الإثبات، ذكر موقفهم من جهة النفي، فقال: إنهم فيما لم يثبته العقل انقسموا إلى فريقين: الفريق الأول: قال: (ما لم تثبته عقولكم فانفوه) وهم المعتزلة، ولهذا نفوا الميزان، ونفوا الصراط، ونفوا كثيراً من الغيبيات التي لم يستطيعوا الاستدلال عليها بالعقل، ونفوا عذاب القبر ونعيمه، وهكذا.
ومنهم من يقول: (بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم -الذي أنتم فيه مختلفون مضطربون، اختلافاً أكثر من جميع من على وجه الأرض- فانفوه).
هذه الطائفة الثانية هم عامة الأشاعرة، وهم الذين يقولون: إذا لم يثبت العقل هذا الأمر، فإننا لا ننفيه إلا إذا اقتضى العقل نفيه فإننا ننفيه، أما إذا لم يقتض العقل نفيه فإننا لا ننفيه؛ ولهذا أثبتوا السمعيات التي هي الغيبيات.
قال رحمه الله: [وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحق الذي تعبدتكم به، وما كان مذكوراً في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، أو يثبت ما لم تدركه عقولكم -على طريقة أكثرهم- فاعلموا أني أمتحنكم بتنزيله، لا لتأخذوا الهدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، وأن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيء من الصفات، هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين.
] سبق أن بيّنا أن هؤلاء حاروا فيما يفعلون بالنصوص الشرعية الدالة على خلاف عقائدهم، فأصبحوا على فريقين، اتفقوا أولاً على أن هذه النصوص مخالفة للعقيدة الصحيحة، وأنها ليست على ظاهرها، ثم انقسموا إلى فريقين: فريق قالوا: لها معنى امتحننا الله عز وجل بتحصيله، وهم أهل التأويل، وفريق آخر قالوا: نكل علمه إلى الله عز وجل، ولا ندري ما معناه وهم أهل التفويض، وقد سبق أن أشرنا إلى هذا عند كلامنا على آية آل عمران.
وإلزام شيخ الإسلام رحمه الله لهم هو من جهة أن الله عز وجل كأنه لم ينزل القرآن، ولم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقائد إلا ليحرفه هؤلاء، وهذا غير معقول، فهذا القرآن الذي هو هدى وبيان وذكرى، والذي أنزله الله عز وجل ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، لا يمكن أن يأتي بما ظاهره الباطل، حتى نحتاج إلى أن يحرفوه عن معناه الظاهر إلى معنىً آخر.
ولو كان هذا المعنى مقصوداً لجاء به مباشرة، ولأخبر الله عز وجل بأنه ليس في السماء، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وارتاح الناس، ولهذا فدلائل بطلان مقالة هؤلاء ودلائل انحرافهم ظاهرة وواضحة؛ سواء من جهة مصدر تلقيهم للعقائد، أو من جهة مخالفتهم الصريحة للنصوص والإجماع، أو من جهة تعاملهم مع النصوص الشرعية وكيفية تأويلها، فكل هذه المعاني الثلاث تدل على أن ما جاءوا به باطل، وأنهم على ضلالة وعلى انحراف، وأصل الضلالة عندهم نشأت من زاويتين: الزاوية الأولى: هو عدم طلبهم للعلم الشرعي، وعدم تعظيم النصوص الشرعية في نفوسهم.
والزاوية الثانية: هو مناقشتهم لأهل الملل والأهواء بالمنهج العقلي بعيداً عن النصوص، فلما ناقشوا أهل الهواء بالمنهج العقلي بعيداً عن النصوص بنوا عقيدة كاملة بالقياسات العقلية من خلال المناظرة والمناقشة، فلما بنوا هذا العقيدة الكاملة من خلال مناظراتهم رجعوا فوجدوا أهل السنة يخالفونهم فحصل احتكاك.
فلما حصل النقاش بينهم، لم يتركوا هذا البناء العظيم الذي بنوه من خلال الأدلة العقلية، لا سيما أنهم يعظمون العقليات ويعتقدون أنها العلم، وأصبحوا يؤولون النصوص الشرعية وينتقدون الصحابة والتابعين وأنهم لم يشتغلوا بالفلسفة، ولم يعتنوا بالعقليات، ولم يبحثوا بحثاً دقيقاً، وإنما اشتغلوا بالجهاد واشتغلوا بالمحاربة مع الكفار، وأصبحوا يرمزون لهم من هذه الزاوية، ولا شك أن هؤلاء كونوا مذهباً وفرقة بعيدة عن النصوص الشرعية، فتنزيل الحديث عليهم: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) والمقصود بالواحدة الصحابة والتابعون ومن كان على طريقتهم، هذا واضح لكل أحد تأمل منهج هؤلاء وأسلوب هؤلاء في التعامل، وطريقة هؤلاء في بناء العقائد، وموقفهم من القرآن والسنة.
ولهذا لو بحثنا موقف أهل الكلام: الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية من النصوص الشرعية! لكان هذا وحده كافياً في أن هؤلاء مبتدعة وأنهم ضالون ومنحرفون، ومع هذا يردد كثير من الناس أن الأشاعرة اليوم من أهل السنة والجماعة، وأن الخلاف بيننا وبينهم في مجموعة قليلة من الصفات، وأنهم اجتهدوا، وأنهم كانوا علماء كباراً، ولا ينبغي أن ينقدوا بهذه الطريقة الشديدة، وأنكم أنتم فرقتم الأمة ومزقتم وحدتها، وكأن أهل السنة هم الذين فرقوا هذه الأمة، والأشاعرة هم الذين يسعون إلى ج