[ذكر ما جرى لشيخ الإسلام من فتنة بسبب تأليفه الحموية]
وهذه الرسالة جرت بسبب تأليفها فتنة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ وذلك بسبب نقده لمناهج المتكلمين ورده عليهم، وبيانه لاضطرابهم وتناقضهم، وشكهم وحيرتهم وضلال منهجهم، فقد رد رحمه الله عليهم رداً قوياً ونقدهم نقداً قوياً بكل طوائفهم، سواء أصحاب مذهب التفويض أو مذهب التأويل الذي يجتمع فيه المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، ومن وافقهم من الصوفية والشيعة وغيرهم.
فرد عليهم رداً قوياً، ونقدهم نقداً قوياً حاراً، فغضب عليه الذين كانوا يعظمون مناهج المتكلمين في تلك الفترة، وقد ذكر تلميذه ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى في كتابه العقود الدرية في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ملخصاً لهذه الفتنة التي وقعت، وقد نقلها المحقق في بداية دراسته لهذا الكتاب.
يقول الشيخ ابن عبد الهادي رحمه الله في كلامه عن المحنة: إنه -يعني: شيخ الإسلام رحمه الله- كتب جواباً سئل عنه من حماة في الصفات، فذكر فيه مذهب السلف، ورجحه على مذهب المتكلمين، وكان قبل ذلك بقليل أنكر أمر المنجمين، واجتمع بـ سيف الدين جاغان في ذلك في حال نيابته بدمشق، وكان شيخ الإسلام رحمه الله مشتغلاً بإنكار المنكر عملياً، فكان ينكر على السحرة والكهنة والمشعوذين عملياً، وكان أيضاً ينكر أمر المنجمين عملياً، فاجتمع بأمير دمشق النائب للدولة في تلك الفترة، وقد كانت الدولة في تلك الفترة هي دولة المماليك التي كانت موجودة في بلاد الشام، وفي مصر، وكانت عاصمتها مصر، وذلك بعد سقوط الدولة الفاطمية على أيدي الأيوبيين، وبعد سقوط الدولة الأيوبية على أيدي المماليك، صارت بلاد الشام تابعة لمصر، وصار في بلاد الشام نائب يتبع الحكومة المركزية الموجودة في مصر، فـ شيخ الإسلام رحمه الله عندما أنكر أمر المنجمين اجتمع بأمير دمشق ونائبها وهو سيف الدين جاغان، فقام نائب السلطنة -كما يقول ابن عبد الهادي رحمه الله- وامتثل أمره وقبل قوله، والتمس منه كثرة الاجتماع به، فحصل بسبب ذلك ضيق لبعض المشتغلين بالعلم والقضاء مع ما كان عندهم قبل ذلك من كراهية للشيخ، وتألمهم لظهوره وذكره الحسن، فانضاف شيء إلى أشياء، ولم يجدوا مساغاً إلى الكلام فيه؛ لزهده وعدم إقباله على الدنيا، وترك المزاحمة على المناصب، وكثرة علمه، وجودة أجوبته وفتاويه، فعمدوا إلى الكلام في العقيدة؛ لكونهم يرجحون مذهب المتكلمين في الصفات والقرآن على مذهب السلف، ويعتقدونه الصواب، فأخذوا الجواب الذي كتبه، وعملوا عليه أوراقاً في رده، ثم سعوا السعي الشديد إلى القضاة والفقهاء واحداً واحداً، وأغروا خواطرهم وحرفوا الكلام وكذبوا الكذب الفاحش، وجعلوه يقول بالتجسيم حاشاه عن ذلك، وأنه قد أوعز ذلك المذهب إلى أصحابه، وأن العوام قد فسدت عقائدهم بذلك، وسعوا في ذلك سعياً شديداً.
ثم ذكر ابن عبد الهادي رحمه الله أن جلال الدين الحنفي قاضي الحنفية وافقهم يومئذ على ذلك، ومشى معهم إلى دار الحديث الأشرفية، وطلب حضور ابن تيمية رحمه الله، وأرسل إليه فلم يحضر، وأرسل إليه ابن تيمية في
الجواب
إن العقائد ليس أمرها إليك، يعني: إلى القاضي، وإن السلطان إنما ولاك لتحكم بين الناس، وإن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي، يعني: إذا كنت تعتبر أن هذا منكراً فإن هذا ليس من تخصصك، وليس داخلاً في ولايتك، فوصلت إليه هذه الرسالة، فأغروا خاطره، وشوشوا قلبه، وقالوا: لم يحضر، ورد عليك، فأمر بالنداء على بطلان عقيدته في البلدة؛ لأن القاضي في العادة والٍ، فعندما يأمر ولا يطاع أمره يشعر أن فيه نقصاً، فأمر بالنداء على بطلان عقيدته في البلدة، فنودي في بعض البلد بذلك، لكن سيف الدين جاغان الذي هو نائب السلطان الذي في مصر انتصر للشيخ، وعاقب أولئك معاقبة شديدة جداً، وحاول القبض عليهم، وضربوا كما يذكر ذلك ابن عبد الهادي رحمه الله.
ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جلس كعادته يوم الجمعة في الجامع، وكان درس ابن تيمية رحمه الله بعد صلاة الجمعة، يعني: بعد أن ينتهي خطيب الجامع الأموي، وتنتهي الصلاة يجلس شيخ الإسلام رحمه الله، ويدرس التفسير، ففسر بعد هذه الفتنة قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:٤]، وأمر بالحلم، وحث على استعماله، ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اجتمع مع القاضي الشافعي إمام الدين رحمه الله تعالى، وكان هذا القاضي حسن العقيدة، فلما اجتمع به بعض العلماء، وبحثوا معه رسالة ابن تيمية الحموية وطال النقاش حولها، وقرئت من أولها إلى آخرها، وأوضح الشيخ بعض موارد النزاع فيها، وبعض المواضع التي حصل فيها الإشكال، وأقر الحضور بصحة هذه