[الردود على مقدمات أهل البدع في حلول الحوادث]
ووجه الاعتراض على هذا الدليل من عدة جهات: الجهة الأولى: أن المعنى المستدل عليه أوضح من الدليل: لأن الدليل فيه تعقيدات، والمعنى المستدل عليه -وهو وجود الله- واضح لا يحتاج أن تستدل عليه بهذه التعقيدات، فهو موجود فطري في نفس الإنسان، وقد دل على وجوده في نفس الإنسان من حيث الفطرة القرآن، والسنة، والأدلة العقلية.
وهذه القضية لها مجال طويل جداً وهو فطرية معرفة وجود الله عز وجل، وقد تحدث عنها ابن تيمية رحمه الله في مجلد كبير من كتاب (درء تعارض العقل والنقل).
الجهة الثانية: أن هناك أدلة أوضح من هذا الدليل الذي استخدمتموه وأحسن منه يمكن الاستدلال بها: كقوله عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥]، فهذا دليل قرآني كاف في الاستدلال على وجود الله عز وجل، فإن الإنسان يعرف من نفسه أنه إما أن يكون خُلِقَ من غير شيء، وهذا مستحيل تأباه الفطرة، ويأباه العقل، وإما أن يكون هو الذي خلق نفسه، وهذا أوضح في الاستحالة؛ لأن العبد يعرف أنه ليس هو الخالق لنفسه، وبناءً على هذا يكون الله هو خالقه، وهذا أسهل وأوضح وأبين، ولا يستلزم لوازم باطلة كنفي الصفات.
الجهة الثالثة: أن الدليل إذا استلزم مدلولاً باطلاً فهو دليل على بطلانه: فالدليل الصحيح يستلزم ملزوماً صحيحاً، فإذا كان الدليل يستلزم ملزوماً باطلاً فهذا دليل على بطلان الدليل نفسه، ولهذا نفى المعتزلة بسببه الرؤية، ونفى جميع المعتزلة والأشاعرة الصفات، ونفوا أيضاً بسبب هذا الدليل كثيراً من القضايا المجمع عليها، حتى إن بعض المعتزلة يقول بانقطاع حركات أهل الجنة، وإنه ستكون هناك فترة على أهل الجنة يتوقفون فيها عن الحركة.
فبعض الناس لما ألزمه باللوازم قال: إنه يلزم من هذا أن الرجل إذا كان قد أخذ اللقمة وأراد أن يضعها في فيه فإنه يقف هكذا، فقال المعتزلي: لابد أن تتوقف هذه الحركات؛ لأنه إذا لم تتوقف فتستلزم أن هذه المحدثات لا نهاية لها، وهذا قدح في الألوهية على حد تعبيرهم ومناقشتهم، فالتزم بانقطاع حركات أهل الجنة، وأنه لا يمكن أن تستمر إلى المستقبل الذي لا نهاية له.
ويستلزم لوازم باطلة كثيرة جداً، وهذا يدل على بطلان الدليل.
الجهة الرابعة: أن هذا الدليل فيه بعض المسائل فمثلاً: قولهم بأن الأجسام تتكون من جواهر، وإذا قسمت هذا الجسم فإنك لابد أن تصل إلى إحدى حالتين: الأولى: إما أن تقسم إلى ما لا نهاية، وهذا مستحيل؛ لأن هذه الدنيا محدودة لابد أن يكون لها نهاية.
الثانية: أن تصل إلى جزء لا يتجزأ، وهذا الجزء الذي لا يتجزأ سموه: الجوهر الفرد، وهو الذي يتركب منه الجسم.
فناقشهم الناس، لأن بعضهم يرى أن أصل الدين هو الإيمان بالجوهر الفرد الذي تتكون منه الأجسام، فإذا تكونت الأجسام استدللنا بالجسم على حدوث العالم.
ويمكن أن نناقش هذه المسألة فنقول: هذا الجوهر الذي وصلتم إليه لو أننا الآن قسمنا الكتاب وقسمنا وقسمنا وقسمنا حتى نصل إلى جزء لا يتجزأ، ويصبح الكتاب أجزاء بسيطة لا تتجزأ، وهذه الأجزاء يتكون منها هذا الكتاب بأكمله، فنقول: هذا الجزء الصغير الذي لا يتجزأ لها جهات، فالجهة الأولى يمكن أن نطلق عليها (أ) والجهة الثانية نطلق عليها (ب)، وهذا يدل على أنه يمكن انقسام هذا الجوهر الصغير الذي لا يتجزأ، فإذا جئنا إلى الجوهر الصغير الآخر الذي تقولون: إنه لا يتجزأ، نقول: مجرد إثباتكم لتركب هذا الجزء مع جزء آخر دليل كاف على انقسام هذا الجزء؛ لأن هذا الجزء الصغير إذا تركب مع هذا الجزء الصغير دل على أن له طرفين: الطرف الأول: مع هذا الجزء، والطرف الثاني: مع الجزء الآخر، فينقسم حينئذ.
ولهذا اختلف الناس في قضية الجوهر الفرد اختلافاً كبيراً جداً، وعامة المتكلمين يقولون: إن الأجسام مكونة من الجوهر الفرد، وإن هناك جزءاً لا يتجزأ وهو الجوهر الفرد، وخالفهم إبراهيم النظام وكان من دهاة العالم لكن أضله الله والعياذ بالله، ولهذا يكفره كثير من الطوائف، حتى من المعتزلة، وهذا النظام التزم بأن التقسيم يستمر إلى ما لا نهاية، يقول: إذا أخذت مثلاً: كتاباً وقسمته فسينقسم، وينقسم وينقسم وينقسم إلى ما لا نهاية، يعني: كلما قسمت فإنك ستصل إلى جزء قابل للقسمة؛ لأنه يتصور هذا النقد الذي وجهناه للدليل الذي ذكرناه.
والحق في هذه المسألة من الناحية العقلية المجردة أنه لا يستلزم عند الانقسام أن نصل إلى جزء لا يتجزأ، ولا يستلزم تجزؤاً إلى ما لا نهاية له، وإنما الشيء إذا قسمته ينتقل إلى غيره ويستحيل إلى غيره، ولا يسمى بنفس الاسم السابق، فمثلاً الماء إذا جاءت عليه الشمس تبخر وصار جسماً آخر.
وهذه النظرية ذكرها ابن تيمية رحمه الله في أكثر من كتاب، وسماها: نظرية الاستحالة، يعني: أن هذا الجزء يستحيل إلى جزء آخر، وإلى شيء آخر، وقد يفنى ويذهب ويصبح لا وجود له، وقد ينتقل إلى شيء آخر غير الجسم السابق الذي كان موجوداً.
ولهذا كان من الأمور