[ظهور طائفة العصريين]
يشابه هؤلاء في الواقع المعاصر اليوم العصريون، الذين جاءوا بالاتجاه العصري، والاتجاه العصري ليس اتجاهاً له أصول عقدية يمكن أن يحاكم إليها هؤلاء، وإنما عندهم فكرة عامة وهي: أن كل ما هو عصري فلا بد أن يكون فيه فائدة، ونحاول أن نقرب بين كل ما هو عصري، حتى لو كان مخالفاً للشرع، ولهذا ظهر بعضهم بفقه في مجال الإفتاء سماه فقه التيسير، وأصبح كل أمر يجد له مذهباً ولو شاذاً عند العلماء قديماً، يفتي به في الواقع المعاصر، فيبيح كشف الوجه والاختلاط، وسفر المرأة بدون محرم، وسماع الأغاني، ونحو ذلك من الأمور التي يفتي بها مثل هؤلاء.
ويشبه هذا بعض العصريين الذين أصبحوا ينتقدون المشايخ، وينتقدون أهل العلم، وينتقدون السلفيين، ويقولون: إن هؤلاء تقليديون، ويقولون: نحن في عصر الديمقراطية الآن، ويقولون: إن عمر بن الخطاب كان ديمقراطياً، ويبدءون يأخذون بعض النصوص، ويلوون أعناقها كما فعل المتكلمون السابقون، إذاً: هذه الفئة تشبه تلك، فقد هان في نفوس العصريين الآن علوم المشايخ وأهل العلم من السلفيين، فلما هانت في نفوسهم تجرءوا عليهم، ومن ثم تجرءوا على النصوص، وبدءوا يلعبون بالنصوص الشرعية في مجال الإفتاء، وفي مجال العقائد، وفي النظم الاجتماعية، وفي النظم السياسية، وفي النظم الاقتصادية، وأصبحنا نسمع من يفتي بإباحة الربا، ومن يفتي بجواز الخلوة، ومن يفتي للناس بكل ما يريدون، بل أصبحنا نسمع من يقول من هؤلاء: هل يمكن أن يدخل الفلاح الجاهل الأحمق الذي لا يفهم شيئاً الجنة؛ لأنه يقول: لا إله إلا الله، وفلان وفلان من أئمة الغربيين العمالقة الفكريين يدخلون النار؛ لأنهم ما قالوا: لا إله إلا الله؟ هكذا يفهمون، ولهذا دعوا إلى حوار الأديان، ودعوا إلى التقارب معها، ودعوا إلى الاجتماع في الملة الإبراهيمية، كما يريدون وكما يتصورون، وهؤلاء خطر حقيقي على المجتمع الإسلامي الآن، كما أن أهل الكلام كانوا قديماً -وما زالوا- خطراً على المجتمع الإسلامي أيضاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف].
ولا تتصوروا أن هذا الكلام سب فقط بل هم كذبوا حقيقة؛ لأنهم نسبوا إلى السلف شيئاً ما قالوه، ولا اعتقدوه، وهم جهلوا؛ وهذا أمر واقع، فإنه لا يمكن أن يكون من اعتقاد السلف أن هذه النصوص لا معاني لها، وما زال السلف رضوان الله عليهم يفسرون معاني النصوص، وارجعوا مثلاً إلى كتاب التوحيد والرد على الجهمية في صحيح البخاري، وهو آخر كتاب من كتب صحيح البخاري، وإلى باب قول الله عز وجل: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:٧]، ستجدون السلف رضوان الله عليهم يفسرون آيات الاستواء تفسيراً واضحاً، بأن معناه: العلو، والاستقرار، والارتفاع، ونحو ذلك، وهكذا يفسرون غيرها من النصوص الشرعية.
قال المؤلف رحمه الله: [وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين].
هذا سبق أن أشرنا إليه، وقلنا: إن هؤلاء يعتقدون أنه ليس هناك صفات حقيقة تؤخذ من ظواهر النصوص، والسبب هو أصول عقلية أصلوها في إثبات وجود الله، وفي وحدانية الله، وفي إثبات النبوة، وفي إثبات البعث، والجزاء، والمعاد، وجعلوا هذه الأصول العقلية هي الأصول التي تحاكم إليها النصوص، فأولوا النصوص وحرفوها بناءً على ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: [فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنىً، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى -وهي التي يسمونها طريقة السلف- وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف -وهي التي يسمونها طريقة الخلف- فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه، فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين الكفريتين، كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم].
استبلاههم يعني: يعتقدون أنهم بله لا يفهمون شيئاً.
قال المؤلف رحمه الله: [واعتقاد أنهم كانوا أميين بمنزلة الصالحين من العامةلم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا].
حتى إن بعضهم يبرر لهذا القول، يعني: عندما يستبلهون السلف السابقين ويرون أنهم مساكين، وأنهم يفهمون فهماً سطحياً للنصوص، يبررون هذا ويقولون: لأنهم اشتغلوا بالجهاد وانشغلوا فصاروا يقاتلون الرومان، ويقاتلون الفرس، ولم يتفرغوا لتأصيل العلم وتقعيد العلم ونحو ذلك، وما دروا أن اشتغال السلف رضوان الله عليهم بالجهاد، هو الذي أعز الله عز وجل به هذا الدين, وهو الذي منع الأمة من الابتداع حتى تركت الجهاد، ورضيت بأذناب البقر، واشتغلت بالعقليات الفاسدة، فأخرجوا