[افتراق الأمة وبيان الفرقة الناجية]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن أمته ستفترق ثلاثة وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله)، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة الفرقة الناجية: (هو من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)].
حديث الافتراق حديث مشهور مروي عن عدد كبير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح صححه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وصححه أيضاً الشاطبي في الاعتصام، وصححه عدد كبير من أهل العلم كـ الترمذي رحمه الله، والحاكم، وابن حبان وغيرهم، وهو حديث صحيح ومشهور.
وقد يوجد في بعض الأسانيد في بعض رواياته ضعف، لكن مجمل الروايات التي رويت عن مجموعة كبيرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن هذا الحديث حديث صحيح لا شك فيه، وقد ضعف هذا الحديث ابن حزم الأندلسي رحمه الله تعالى، وابن الوزير في كتابه العواصم والقواصم، ولا حجة لهم في تضعيف هذا الحديث، وبالذات تضعيف ابن الوزير في العواصم والقواصم مبني على ذكر هذا في خطبة كتابه، عندما تحدث عن عظمة هذه الأمة ومكانتها ومنزلتها، فأشار إلى هذا الحديث الذي فهم منه أن عامة الأمة من الضالين المهددين بالهلاك إلا مجموعة بسيطة، وهذا خطأ، فإنه ليس مفهوم الحديث أن هذه الأمة عندما تفترق على ثلاث وسبعين فرقة وأن الواحدة منها هي الناجية أن أكثر الأمة من الضالين.
فإن هذه الفرقة الواحدة هي في الحقيقة أكثر الأمة، والاثنتان والسبعون فرقة الأخرى هي عبارة عن أعداد إذا قيست بالنسبة لحجم الأمة بالكلية هي قليلة وضعيفة لا سيما في الصدر الأول، فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا هم أهل السنة والجماعة، فلما ظهرت الفرق ظهرت أعداد بسيطة جداً وقليلة، مع أن لها أسماء، فالخوارج كان عددهم محدوداً، ومعطلة الصفات كانوا أربعةً أو خمسةً منتشرين في البلاد الإسلامية، ولهذا كان يتتبعهم الخلفاء ويقتلونهم كما سيأتي معنا.
وهكذا الحال بالنسبة للمرجئة، وهكذا الحال بالنسبة للمعتزلة، ولهذا فإن كل فرقة خرجت عن السنة من حيث العدد ومن حيث الكم ومن حيث انتساب مجموعة كبيرة من الأمة إليها؛ هم عدد قليل لا يمثل عامة الأمة التي التزمت بالسنة والجماعة، ثم أصبحت هذه الفرق تزيد قليلاً قليلاً، وفي عصور الجهل الذي انتشر في الأزمان المتأخرة كثرت هذه الطوائف وصاروا عدداً كبيراً، لكن من كان من هذه الأمة على طريقة عامة أهل السنة ولم يختلط بالقبوريين ولا بالتصوف ولم يكن من عامتهم فإنه من أهل السنة، وهم عدد كثير من الناس ولله الحمد، لا سيما في هذه الأزمان ممن ولد على الفطرة، ولم يكن له ارتباط بفرقة من هذه الفرق بحيث يكون من عامتهم.
ولهذا كما قلت: إن هذه الفرق في بدايتها وإن كانت من حيث العدد كثيرة -باعتبار أن أهل الحق فرقة واحدة- لكن هذه الفرقة هم عامة المسلمين، وهؤلاء فرق بسيطة مع الزمن أصبح لهم أعداد كثيرة، لكن أيضاً مع عامة المسلمين يبقون مهما كثرت أعدادهم ليسوا بالكثرة التي تغطي عامة المسلمين.
وكثير ممن تحدث ودافع عن الأشاعرة تكلم وقال: إن خمسة وتسعين في المائة من الأمة على طريقة الأشاعرة، وهذا قول فاسد باطل، ودندن عليه بعض المتأخرين وقال: لماذا يتكلم على الأشاعرة بهذه الطريقة مع أن عامة الأمة أشاعرة؟ وهذا ليس صحيحاً أبداً؛ لأن عقيدة الأشاعرة عقيدة دقيقة كلامية لا يفقهها إلا الدارس، والدارسون المتخصصون في العقائد وفي علم الكلام والمشتغلون بذلك قلة، حتى لو أن عدداً كثير من الناس درسوا هذه المناهج في المتوسطة أو في الجامعة أو في غيرها، ينساها في بعض الأحيان، وحينئذ فالقول بأن أكثر الأمة على عقيدة الأشاعرة قول باطل؛ لأن الرجل الذي يبقى على فطرته إذا سألته أين الله؟ أجابك أنه في السماء مباشرة، وهذا نقد كبير جداً في عقيدة الأشاعرة الذين ينفون علو الله عز وجل على خلقه.
وهكذا الحال في بقية صفات الله عز وجل، عندما تتحدث مع الإنسان المسلم الذي لم يختلط بهذه الشبهات، أو ربما درسها في بعض فترات حياته ونسيها إذا أجاب بفطرته سيجيبك بمقتضى الكتاب والسنة.
وهذا لا يعني أن هذه الفرق ليست خطراً، بل هي خطر؛ لأنه عندما توجد هذه الفرق، وخاصة عندما تتبناها دول ستنشرها في الناس نشراً كبيراً من خلال المساجد، والخطباء الذين يتبنون هذه المذاهب، ومن خلال حلقات التعليم في المدارس مثلاً، ومناهج الجامعات؛ لأن الأجيال عندنا كلها تمر على التعليم.
ولهذا فإن المخطط دنلوب الإنجليزي عندما جاء أيام الاستعمار الإنجليزي على مصر وضع خطة لمناهج التعليم، وتأثر بها الناس تأثيراً كبيراً؛ لأن الأجيال كلها تمر على التعليم، وحينئذ ستتأثر ولو بنوع من التأثر، فإذا دعم ذلك اهتمام من الشخص بهذه القضية، حينئذ ربما يكون هذا مؤثراً عليه