هذا ما يتعلق بعلاقة هذه المقالة باليهود، وأما علاقة هذه المقالة بالصابئة، فالصابئة هم الذين يعبدون الكواكب، وعلماء الصابئة فلاسفة كانوا يرون أن هذه الكواكب جزء من الإله، وأنها عبارة عن نفس وروح مجتمعة في الكواكب السبعة الموجودة في السماء، وإلى الآن توجد لهم آثار في بلاد الشام على شكل هياكل يبنونها، بعض هذه الهياكل يتعبدون فيها للزهرة، وبعضها يتعبدون فيها للمريخ، وبعضها يتعبدون فيها للشمس.
وهم الذين بعث الله عز وجل فيهم إبراهيم عليه السلام، وكل حاكم فيهم يلقب بالنمرود فالنمرود ليس علماً على شخص محدد، وإنما هو لقب لكل ملك من ملوك الصابئة مثل: النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه، فغلبه وبهته إبراهيم بالحجة والبرهان.
فاسم النمرود كما سيأتي معنا مثل: اسم كسرى، ومثل: اسم هرقل، ومثل: اسم النجاشي، هذه الأسماء أسماء لكل من حكم طائفة من الأمة، فكسرى اسم لكل من حكم الفرس كما سيأتي معنا، فالنمرود هو اسم لكل من حكم الصابئة، والصابئة علماؤهم فلاسفة يرون أن هذه الكواكب جزء من الإله، فيتعبدون لها وينقسمون إلى قسمين: عباد الهياكل، وعباد الأصنام.
فعباد الهياكل هم الذين يتعبدون مباشرة لهذه الكواكب، وعباد الأصنام يقولون: لا يمكن أن نتعبد لهذه الكواكب مباشرة، ولكن نصنع على هيأتها صنماً، هذا الصنم الذي نصنعه يقرب أعمالنا لهذه الكواكب، وهذه الكواكب تنقل أعمالنا للإله الأعظم الذي هو الله حسب ظنهم.
ولهذا كان قوم إبراهيم على طائفتين، وناقشهم إبراهيم في الجهتين، عندما أراد أن يناقش أصحاب عباد الكواكب، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}[الصافات:٨٩]، ويقول العلماء: إن إبراهيم استدل بسقمه حسب قولهم بأن هذا السقم من النجوم التي في السماء، ومناقشة إبراهيم لهؤلاء موجودة في سورة الأنعام عندما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربي، وهذا ليس نظراً من إبراهيم للوصول إلى إثبات وجود الله عز وجل، وإنما هي مناظرة ومناقشة لقومه عندما رأى الشمس بازغة، {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ}[الأنعام:٧٨]، {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}[الأنعام:٧٦].
فهذه مناقشة كان يظهرها أمام قومه الذين يعظمون الكواكب، فإذا نظر إلى القمر قال: هذا ربي يعني: أنتم تقولون إن هذا ربي، ((فَلَمَّا أَفَلَ))، فينظر إلى قومه ويقول:{لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}[الأنعام:٧٦]، يعني: كيف يأفل الرب ويختفي عن عبيده؟ ولهذا فإن الصحيح كما رجح ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في التفسير أنه كان مناظراً وليس ناظراً، خلافاً لما رجحه الطبري رحمه الله في جامع البيان، فإنه رجح أنه ناظر يريد أن يستدل، وهذا غير صحيح، فإن سياق الآية لا يدل على ذلك.
هذا بالنسبة لمناقشته للصابئة في موضوع الكواكب، وأما مناقشته للصابئة في موضوع الأصنام فإن والد إبراهيم الذي هو آزر كان ينحت الأصنام، وهذا يدل على أنهم من الطائفة الثانية الذين هم عباد الأشخاص أو عباد الأصنام، ومناقشة إبراهيم لهم هو عندما حطم هذه الأصنام وكسرها، وعلق فأسه على الصنم الكبير منهم، فلما أقبلوا إليه، {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا}[الأنبياء:٥٩]، قال:{فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}[الأنبياء:٦٣ - ٦٤]، ثم رجعت إليهم حمية الجاهلية وقالوا له:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ}[الأنبياء:٦٥]، ثم أرادوا تحريقه بالنار كما هي في القصة المشهورة.
كان الجعد بن درهم من أهل حران، وكانت حران مليئة بالصابئة، فتأثر بهم؛ لأن هؤلاء الصابئة نفاة للصفات.