[مناقشة الفرق الضالة المنحرفة في مسألة علو الله على خلقه]
ثم بدأ يناقش الفرق الضالة المنحرفة في هذا الموضوع، وقد سبق أن ذكرنا أن الذين انحرفوا في علو الله عز وجل على خلقه، أول ما بدأ الانحراف بدأ عن طريق الجعد بن درهم الذي نفى أسماء الله عز وجل وصفاته، ونفى علو الله عز وجل على خلقه، وقال إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، وقال بخلق القرآن، ثم تلقّف هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان وقال بنفس هذه المقالة، ونسبت إليه الطائفة المعروفة بالجهمية، ثم أخذها عن الجهم بشر المريسي، ثم أخذها عن بشر أحمد بن أبي دؤاد الذي وقعت على يديه الفتنة المشهورة بفتنة خلق القرآن.
والأشاعرة المتقدمون كـ أبي الحسن الأشعري والباقلاني كانوا يثبتون علو الله عز وجل على خلقه، وإنما حصل النفي من زمن الجويني فما بعد عندما اقتربوا من المعتزلة، وأصبحوا مثل المعتزلة، حتى جاءت مرحلة الفخر الرازي الذي يقول: إن الله عز وجل لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا منفصل عنه ولا متصل به.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات) يعني: الجهمية، والمعتزلة ومتأخري الأشاعرة، والماتريدية.
قال: (فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله من هذه العبارات ونحوها، دون ما يفهم من الكتاب والسنة، إما نصاً وإما ظاهراً، فكيف يجوز على الله ثم على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم على خير الأمة أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر، في خلاف الحق).
يعني: إذا كان الحق فيما يقوله هؤلاء من نفي علو الله عز وجل على خلقه، فكيف يجوز أن يملأ القرآن بإثبات علو الله عز وجل على خلقه! ويتكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم دائماً! ويعتقده الصحابة ويتكلمون به دائماً! وهكذا التابعون! وهكذا من بعدهم في القرون الثلاثة المفضّلة، كيف يجوز أن يقول هؤلاء ويتكلمون بما يخالف الحق الذي عليه هؤلاء النفاة؟ لا يمكن أبداً؛ ولهذا فإن هذا الإشكال الذي أورده شيخ الإسلام عليهم، وهو أن القرآن مشحون بإثبات علو الله على خلقه، وكذلك السنة، وكذلك أقوال الصحابة، وكذلك أقوال التابعين وغيرهم، بماذا أجاب عنه هؤلاء؟ قالوا: إن الله عز وجل عندما ذكر علوه على خلقه، وعندما ذكره الرسول، وذكره الصحابة، فهذا ابتلاء من الله للخلق حتى يؤولوا هذه النصوص عن ظاهرها، ويجتهدوا في الوصول إلى معنى مجازي غير هذا الظاهر الذي دل عليه الكتاب والسنة.
والجواب بسيط جداً، فنقول: كيف يُمْلأ القرآن بإثبات علو الله على خلقه! وكيف يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم به دائماً ولا يشير ولو إشارة إلى أنه ليس في العلو، وأنه كلّف العباد أن يؤولوا هذه النصوص، فمن أين جئتم بها؟ ولهذا فهؤلاء في الحقيقة لم ينطلقوا في نفي علو الله عز وجل على خلقه من النصوص الشرعية، وإنما حكّموا عقولهم في صفات الله عز وجل، وجاءتهم شبهات أوصلتهم إلى أن الله عز وجل لا يوصف بأنه عال على خلقه، هذه الشبهات عندما أوصلتهم إلى هذه النتيجة اعترض عليهم أهل السنة بالنصوص، فما استطاعوا إنكار النصوص مطلقاً، لأنهم إن أنكروها مطلقاً كفروا، فماذا قالوا؟ قالوا: إن الله ابتلى الناس بهذه النصوص حتى يؤولوها.
ونحن نقول: لكن القرآن ليس فيه إشارة إلى أن الله ابتلى الناس بهذه النصوص حتى يؤولوها.
قالوا: هذا ما يدل عليه العقل! قلنا: إن الله عز وجل لم يشر في القرآن، ولا أشار النبي صلى الله عليه وسلم في السنة أنكم تأخذون الأسماء والصفات وقضايا الاعتقاد من العقل، وإنما تؤخذ من النصوص، والنصوص موافقة للعقل وليست مخالفة له! ولهذا تعتبر شبهة هؤلاء من أفسد الشبهات.
وعلى كل حال فأنتم تعلمون أن كل صاحب بدعة لديه كلام يتكلم به، ولديه شيء يتحدث به، حتى المشرك الذي يعبد غير الله عز وجل لديه كلام يتكلم به، ولديه شبهة يستند إليها، لكن ليست كل شبهة يكون صاحبها معذوراً، وليس كل كلام يكون صاحبه مصيباً فيه، وليس كل كلام يكون موافقاً للحق؛ فينبغي للإنسان أن يدرك هذه الحقيقة، ولهذا لما تحدث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كشف الشبهات ذكر أن أصحاب الشبهات من أصحاب القبور لديهم علوم وعندهم أدلة، ولديهم كلام يتكلمون به، فإن لم يكن الموحد لديه من العلم والفهم لدين الله عز وجل ما يدفع به هذه الشبهات فإنه سيضل وينحرف والعياذ بالله، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتزود بالعلم.
والموحد الذي لديه علم شرعي يستطيع أن يغلب الألف من هؤلاء؛ لأن حججهم كما قال شيخ الإسلام حجج تهافت كالزجاج وكل كاسر مكسور، يعني: كل حجة تكسر الأخرى وتحطّم الأخرى، فلا يتصور أحد أن المشرك ليس لديه كلام يتكلم به، وأن القبوري ليس لديه كلام يتكلم به، وأن العصري الذي يتلاعب بالنصوص الشرعية ليس لديه كلام