للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[نشأة علم الكلام]

أما نشأة علم الكلام فإن أصحاب علم الكلام يقولون: إنه نشأ من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الآيات القرآنية، وإنه تطور بعد ترجمة الكتب اليونانية.

هكذا يصورونه! والحقيقة أن علم الكلام علمٌ نشأ بسبب العلاقة التي حصلت بين أبناء البلدان المفتوحة من أصحاب الديانات المختلفة وبين بعض المسلمين، عندما انتشرت الفتوحات الإسلامية، ودخل الفرس والهند في دين الله، ودخلت ممالك كبيرة في دين الله عز وجل، كانت هذه الأماكن لها أديان وتصورات وأفكار ومناهج وعقائد، فبقي بعضهم على ما هم عليه، وآمن بعضهم بهذا الدين الحق والتزمه بصدق وعقيدة، وبعضهم أظهر الالتزام بالإسلام نفاقاً.

فظهرت طائفة من المسلمين تناقش الطوائف والأديان والعقائد والفلسفات المختلفة التي واجهها المسلمون، فظهر من ناقش السومنية وهم طائفة من الهنود، وظهر من ناقش الزرادشتية مثلاً، وظهر من ناقش فلاسفة اليونان، وغيرهم من أصحاب المذاهب والفلسفات المختلفة، الذين ظهروا لمناقشة هؤلاء، وليس هم أهل الحديث وأهل العلم الأئمة الكبار الذين كان لهم قدم صدق في الأمة، وكانت الأمة ملتفة حولهم، وإنما هم مجموعات بسيطة من الذين يهوون العقليات، وتأثروا بالجلوس مع أبناء البلدان المفتوحة، ولم يكونوا من أهل العلم.

وبرز منهم أشخاص اشتهروا اشتهاراً كبيراً مثل الجعد بن درهم، وكان ذلك في أوائل المائة الثانية تقريباً وفي أواخر الدولة الأموية، فـ الجعد بن درهم هو شيخ مروان بن محمد الأموي آخر ملوك الدولة الأموية، وأنتم تعلمون أن الدولة الأموية سقطت في سنة مائة واثنين وثلاثين.

والجعد بن درهم أظهر القول بخلق القرآن وأظهر إنكار الرؤية، وأظهر أن الله عز وجل ليست له الصفات المثبتة، وأيضاً أظهر عقائد متعددة أخذها عنه مجموعات أيضاً، لكن أشهرهم الجهم بن صفوان، واشتهر الجهم بن صفوان بعد ذلك، وانتسبت له الطائفة المشهورة بالجهمية، وساعد على الأمر ترجمة الكتب اليونانية في زمن الدولة العباسية قبل زمن المأمون، وساعدها بشكل كبير المأمون، وكان المأمون رجلاً ذكياً متكلماً، فقد كان المأمون من أهل الكلام الذين يعرفون المنطق ويعرفون الفلسفة اليونانية بشكل دقيق، فظهرت كما قلت هذه المجموعات وهذه الطوائف التي انتحت منحىً عقلياً في دراسة أصول الدين بعيداً عن النصوص الشرعية تأثراً بالفلسفات المختلفة، ويحتجون على ذلك كما ذكر التفتازاني أن المخاصم والمعاند لا يقر بالأحكام الشرعية ولا يقر بالنصوص الشرعية، فأنت إذا أردت أن تتكلم مع الخصم وقلت له: قال الله تعالى، لا يقر لك بأن قول الله عز وجل يقيني وأنه حجة في ذاته، ولهذا فنحن بحاجة -كما يقولون- إلى أن نخترع وأن نبتكر دلائل عقلية لإقناع الخصوم.

وإلى هذا الحد ليست هناك مشكلة، ولكنَّ المشكلة جاءت من عدة أمور: الأمر الأول: أنهم ليسوا من أهل العلم بالشريعة، ولهذا اخترعوا أدلة تناقض الأحكام الشرعية.

الأمر الثاني: أن هؤلاء اخترعوا أدلة عقلية وجعلوها أصولاً اعتقادية، وجعلوها ملزمة، وكل النصوص الشرعية المخالفة لهذه الأصول العقلية كما يسمونها، والتي هي في حقيقتها شبهات أولوه أو حرفوه أو ردوه بأي وسيلة من الوسائل.

ومن هنا ظهرت هذه الطائفة مخالفة لمنهج عامة الأمة، التي كانت تعظم الكتاب وتعظم السنة، وإذا وجدت ملحداً - وعدد الملحدين قليل جداً في تاريخ الأمة المسلمة - يناقشه أهل العلم بما يقنعه، وبما يؤثر فيه، وبما يصلحه، خصوصاً أن القرآن والسنة امتلأت بالأدلة العقلية المقنعة للمنكر والمعاند، ولا يشترط أن يقول: قال الله تعالى كذا؛ لكن يمكن أن يستنبط من الآيات ومن الأحاديث النبوية أدلة عقلية يمكن أن يقنع بها أي خصم من الخصوم، لكن هؤلاء لم يكونوا من أهل العلم ولم يشتغلوا به ولم يدرسوه؛ ولهذا اخترعوا أدلة معقدة بشكل غريب.

وقد تأثروا في أدلتهم هذه بأدلة الفلسفة اليونانية أو الهندية أو غيرها، فإن اليونان أمة وثنية ما كانت تدين لله عز وجل، وظهر فيها حكماء وأذكياء، أرادوا أن يستدلوا على الأمور الغيبية ويسمونها الميتافيزيقيا، وليس عندهم أداة من أدوات كشف الغيبيات إلا العقل، وأرادوا أن يستدلوا بالمحسوس على الغائب، ويسمونه الاستدلال بالشاهد على الغائب، فأرادوا الاستدلال بهذه الطريقة فوقعوا في أمور كثيرة تعثروا فيها، وإذا كانت هناك إصابة خفيفة جداً، فهي ليس لها أي قيمة أمام الأخطاء الفادحة الكبيرة التي أخطئوا فيها، في مسائل الألوهية، وفي مسألة النبوة، وفي مسألة اليوم الآخر، وغيرها من المسائل العقدية المهمة التي تصح بها عقيدة العبد أو تفسد، ولهذا عندما نأتي للحديث عن الأصول العقلية التي نفى أهل الكلام من أجلها الصفات، سنجد أنهم تأثروا تأثراً كبيراً بأدلة الفلاسفة وغيرهم من الأمم الأخرى.

إذاً: هذه الطائفة الجديدة التي سميت بأهل ا

<<  <  ج: ص:  >  >>