[أوجه استدلال المفوضة بآية المتشابه والرد عليهم]
نسوق بعض أوجه الاستدلال التي أخذها المفوضة من هذه الآية بإذن الله تعالى.
هذا كتاب (إبطال التأويلات لأخبار الصفات) وهو لـ أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء وهو عالم من علماء الحنابلة، وهو من مفوضة الحنابلة.
فإن علماء الحنابلة كانوا على طريقة الإمام أحمد في التزامهم بالأثر وتعظيمهم للسنة، لكن المتأخرون منهم خلطوا مقالات أهل السنة بمقالات أهل الكلام، فلما خلطوها تكونت طائفة ليس من أهل السنة المحضة ولا من أهل التأويل والمعطلة المحضة، وهم ما يطلق عليهم بمفوضة الحنابلة، منهم أبو يعلى هذا، ومنهم ابن الزاغوني، ومنهم الكلوذاني، ومنهم السفاريني وغيرهم من علماء الحنابلة.
فكتاب (إبطال التأويلات لأخبار الصفات) لـ أبي يعلى ألفه في الرد على عالم من علماء الأشاعرة وهو ابن فورك الأشعري في كتاب له بعنوان (مشكل الحديث وبيانه)، وكتاب (مشكل الحديث وبيانه) مطبوع في مجلد واحد، وهو في الرد على كتاب التوحيد لـ ابن خزيمة رحمه الله، فإن ابن خزيمة رحمه الله لما ألف كتابه (التوحيد) ساق فيه إثبات الصفات، فجاء ابن فورك وأول هذه الأحاديث جميعاً في كتابه (مشكل الحديث وبيانه) فجاء أبو يعلى فرد على ابن فورك وأثبت الصفات، لكنه أثبتها على طريقة المفوضة بتفويض معانيها وأنه لا معنى لها، وأن طريقة ابن فورك في التأويل خطأ.
فـ أبو يعلى لم ينكر على ابن فورك نفي معاني الصفات التي تدل عليها ظواهر النصوص، وإنما أنكر عليه التأويل، قال: لأن التأويل لا يعلمه إلا الله على طريقة المفوضة.
وعقد فصلاً يقول: فصل في الدلالة على أنه لا يجوز الاشتغال بتأويلها وتفسيرها يعني: بتأويل الصفات وتفسيرها.
ثم استدل بآية آل عمران، فمن أوجه الأدلة، يقول: «فإن قيل: من أصحابنا من قال: لا متشابه في القرآن إلا والراسخون في العلم يعلمون تأويله، والواو هاهنا للعطف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:٧] فسقط هذا الدليل».
معنى قول أبي يعلى: (فإن قيل) يعني: إذا اعترض معترض على طريقة المفوضة فقال لهم: إنه لا متشابه في القرآن إلا والراسخون في العلم يعلمونه، فصاحب هذا الاعتراض يرى أن الوقف يصح أن يكون على لفظ (العلم) وأن الواو تكون عاطفة، وقد ذكر هذا ابن قتيبة.
وابن قتيبة عالم من علماء السلف، وقد عظمه ابن تيمية رحمه الله كثيراً، وقال: إنه خطيب أهل السنة، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة.
يقول المعترض: سقط دليلكم عندما استدللتم بآية آل عمران.
قال أبو يعلى: (قيل:) يعني في الرد: (هذا قول يخالف إجماع الصحابة).
أقول: قول أبي يعلى فيه مصادرة للحقيقة، أعني: قوله: إن هذا يخالف إجماع الصحابة؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما من الصحابة روى عنه ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية أنه قال بالوقوف على لفظة (العلم).
ثم قال: (قال أبو بكر الأنباري في كتاب (الرد على أهل الإلحاد): قد ذهب إلى هذا الذي أنكره -يعني: ابن قتيبة - جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم: أُبي وابن مسعود وابن عباس، ففي قراءة عبد الله: (إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون).
يعني: هذا الوقف، وهذا في قراءة شاذة وليست متواترة في مصحف ابن عباس وفي قراءة أُبي: (ويقول الراسخون في العلم) يعني: مما يدل على أن الوقف يكون على لفظ الجلالة.
والحقيقة أن الخلاف بيننا وبين المفوضة ليس هو في أين يكون الوقف، وإنما هو في معنى التأويل ما هو وفي صفات الله هل هي من المتشابه أو ليست من المتشابه من حيث المعنى؟ لأن الوقف على لفظ الجلالة، والوقف على (العلم) واعتبار أن الواو عاطفة أو استئنافية، ليس فيها إشكال بالنسبة لنا؛ لأنه لو كان الوقف على لفظ الجلالة كما يقول هؤلاء فإن التأويل يكون بمعنى حقيقة الشيء، فلا يعلمه إلا الله عز وجل، والراسخون في العلم يفوضون حقيقته.
وإذا كان الوقف على العلم فإن التأويل يكون بمعنى التفسير، وهذا ما حققه شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه (الإكليل).
المهم أنه ذكر بعض الأدلة على أن الوقف يكون على لفظ الجلالة، وهذا لاشك أنه حتى ولو كان الوقف على لفظ الجلالة فإنه لا يسعفهم في أن المقصود بالتأويل هنا التفسير، وأنه يفوض فلا يفهم له معنى.
وجه الدلالة الثاني الذي أشار إليه، يقول: (ولأن الله قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران:٧] ومعناه: