يقول المؤلف رحمه الله:[ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة بل في غاية الضلالة].
المقصود بالقول هو قولهم: إن منهج السلف أسلم ومنهج الخلف أعلم وأحكم.
قال رحمه الله:[كيف يكون هؤلاء المتأخرون؟ لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضربٍ من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه مرامهم حيث يقول: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالمِ فلم أر إلا واضعاً كف حائرٍ على ذقنٍ أو قارعاً سن نادمِ] قائل هذا القول لم يذكره ابن تيمية رحمه الله صراحةً، لكن هو الشهرستاني، فإنه ذكر هذا في بداية كتابه نهاية الإقدام من علم الكلام، وبعض العلماء ينسب هذا القول للشهرستاني، وبعضهم ينسبه إلى غيره كما ذكر المحقق، وهو أنهما لـ أبي بكر محمد بن باجة والله أعلم بالصواب، وهذه الأبيات رد عليها العلامة الصنعاني اليماني رحمه الله، فقال: لعلك أهملت الطواف بمعهد الر سول ومن والاه من كل عالمِ فما حار من يهدي بهدي محمد ولست تراه قارعاً سن نادمِ وواضح من خلال البيتين السابقين للشهرستاني أنه في حيرة، لأن علم الكلام علم يحير في الحقيقة، إذْ يأتون بأدلة عقلية، وأحياناً تتكافأ عندهم هذه الأدلة، ولهذا يروى عن بعضهم أنه التقى برجل فقال: هل أنت مرتاح لما تعتقد؟ - يعني: من قضايا وجود الله وإثبات الصفات له واليوم الآخر وغيرها - قال: نعم، فبكى، وقال: والله إنني لا أجد ذلك - يعني: في نفسه - لأن الأدلة العقلية خصوصاً إذا كانت من شخص غير مهيأ للاستدلال تتكافأ عنده.
فهذا الآمدي مثلاً، والغزالي أيضاً يحارون في المسائل الكبار، إذْ يأتون إلى مسألة كبيرة جداً مثل موضوع إثبات وجود الله، فيرتبون المسائل بعضها على بعض، حتى يأتوا إلى نقطة يحتارون فيها، فإذا احتاروا فيها توقف الآمدي في إثبات وجود الله! فانظروا كيف يتورطون، فهو يرتب إثبات وجود الله على دليل الحدوث، ويرتب دليل الحدوث على تماثل الأجسام، ويرتب مسألة الأجسام على الجوهر الفرد، ثم يأتي إلى الجوهر الفرد ويجد فيه إشكالاً، فإذا وجد فيه إشكالاً توقف واحتار، لكنْ إذا احتار هل معنى هذا أن الأصل الكبير الذي هو وجود الله عز وجل لا يثبته؟ ولهذا يشعرون بالحيرة ويشعرون بالتعاسة والنكادة؛ بسبب هذه الطرق التي اشتغلوا بها.
والحقيقة أن مرد هذه الأشياء، يعود إلى أمرين: عدم طلب العلم الشرعي من بداية الحياة - يعني: من بداية النشأة - والسبب الثاني: عدم تعظيم الله عز وجل، وعدم تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث إنه يهتدي بالكتاب ويهتدي بالسنة، ولهذا تجدون أن كل من يعتمد على نفسه في قضايا العقائد أو قضايا الأعمال يضل.
وانظروا الآن إلى الحياة المعاصرة الموجودة، فالذين يعتمدون في تشريعاتهم على غير الله عز وجل، يأتون إلى قضية الإنسان ويقولون: كيف نحكم الإنسان؟ والمقصود جنس الإنسان، فيقولون: كيف يمكن إذا تخاصم اثنان أن نحل المشكلة بينهما، سواء في العقار أو في الميراث أو في التجارات أو في الديون أو في أي باب من الأبواب، فبدءوا يخترعون لأنفسهم قانوناً، وهو عبارة عن تشريعات جاهلية يأتون بها، ولهذا تجد أن بعضهم يجورُ على بعض، وبعضهم يظلم بعضاً، وتجد أن هذه التشريعات لا تحقق راحة الإنسان في الدنيا، مع أنها وضعت له في الدنيا، فالبلاء الذي وقع فيه أهل الكلام هو في موضوعات نظرية.
وكذلك وقعوا في موضوعات عملية في محاولة إراحة الإنسان بأنه هو الذي يشكل القانون لنفسه، والإنسان كما تعلمون ظلوم جهول، لا يمكن أن يحل الأزمات التي تعترضه لضعف علمه ولرغبته في البغي، وتسلط الناس بعضهم على بعضهم، ولهذا لا يمكن أن يحل هذه الأزمة إلا التشريع الرباني من الله عز وجل، والعقائد الربانية من الله عز وجل، وحينئذٍ يسير الناس في وئام وفي راحة، دنيونية وانبساط قبل الراحة الأخروية والانبساط الأخروي.