[مشابهة النفاة للمشركين والمنافقين]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الكلام قد رأيته صرح بمعناه طائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزوماً لا محيد عنه، ومضمونه أن كتاب الله لا يهتدَى به في معرفة الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردّون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه مَن لا يؤمن بالأنبياء كالبراهمة والفلاسفة -وهم المشركون- والمجوس وبعض الصابئين] وهذا واضح لمن عرف طريقتهم ومن عرف منهجهم، فهم لا يتحاكمون في اعتقاد إثبات الصفات أو نفيها، أو إثبات الأسماء أو نفيها، أو الكلام في الإيمان أو القدر إلى النصوص أصلاً، ولهذا فإلزام شيخ الإسلام لهم بأنهم يشبهون أهل الجاهلية، ويشبهون أهل الشرك والمشركين، أولاً: هذا ليس تكفيراً لهم، والكلام على موضوع التكفير له شأن آخر، وله طريقة أخرى ودراسة أخرى، وإنما أراد شيخ الإسلام رحمه الله أن يبيّن أن هؤلاء الذين انحرفوا عن هدي الكتاب والسنة شابهوا الكفار وشابهوا أهل الجاهلية، لأن أهل الجاهلية لا يؤمنون بالقرآن ولا السنة، ولا يتخذونه مصدراً في التحاكم، سواء في مجال التصورات والعقائد، أو في مجال الأحكام والتشريعات؛ وكذلك غيرهم ممن شبههم بهم.
قال رحمه الله: [وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة ولا يرتفع الخلاف به، إذ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم، وقد أمروا أن يكفروا بهم] شيخ الإسلام رحمه الله أراد أن يبيّن أن هؤلاء عندما انحرفوا، فرقوا الأمة تفريقاً كبيراً، حيث جاءت الصوفية واتخذوا الكشف مصدراً للتلقي، وجاءت الشيعة واتخذوا أئمتهم مصدراً للتلقي، وجاء أهل المذاهب المتعصبين واتخذوا أئمتهم مصدراً للتلقي، وجاء عدد كبير ممن يعارض النصوص الشرعية ولا يعطي لها مقداراً.
واتخذوا مصادر للتلقي، ولما جاء العصر الحديث اتخذ كثير من الناس القوانين الغربية مصدراً من مصادر التلقي والتشريعات، وأصبح كثيرٌ من هؤلاء يحاول أن يجمع بين الشرع وبين ما اتخذه مصدراً.
فتجد أن أهل الكلام يقولون: نحن نريد التوفيق بين النصوص الشرعية والمعقولات، وذلك بتأويل النصوص الشرعية وتحريفها، ويأتي الصوفية، ويقولون: نحن نريد التوفيق بين الكشف والنصوص الشرعية، فيحرفون النصوص الشرعية ويفسرون قول الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩] يعني: حتى يحصل لك الكشف، ثم لا تعبد الله عز وجل؛ لأنك قد سقطت عنك التكاليف، ويأتي الشيعة ويجعلون الأئمة مصدراً للتلقي، ويقولون: نحن مع هذا نؤمن بالكتاب والسنة، ويحاولون أن يفسروا أن وجوب طاعة الأئمة مأخوذ من النصوص الشرعية.
ولما جاء هؤلاء الذين طبقوا القوانين الوضعية، قالوا: إن هذا الدين وهذه التشريعات جاءت لإصلاح الإنسان في صلاته وصيامه وحجه، وفي تهذيبه وأخلاقه، وأما سياسة الناس والأموال والتعليم والحضارة، فإنها تبنى بناء آخر لا علاقة له بهذا الدين، ونحن بهذه الطريقة نوفق بين الدين والعلم، ولهذا سموا علمانية؛ وتصوروا أن الدين ليس فيه علم وليس شاملاً للحياة بأكملها، ولهذا أشبهوا المنافقين الذين يظهرون جانباً من الدين ويخفون جانباً آخر.
قال المؤلف: [وما أشبه حال هؤلاء المتكلفين بقوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:٦٠ - ٦٢]].
سبحان الله! هذه الآية يمكن أن تنزلها على المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تنزلها على أهل الكلام الذين عارضوا النصوص بالعقل، وأن تنزلها على الصوفية الذين عارضوا النصوص بالكشف، وأن تنزلها على الشيعة الذين عارضوا النصوص بالأئمة، وأن تنزلها على متعصبة المذاهب، وأن تنزلها على العلمانيين اليوم الذين يسنون للناس التشريعات، وهي مخالفة للكتاب والسنة.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [النساء:٦٠] كل هذه الفئات التي ذكرناها تزعم أنها آمنت بما أنزل إليك، ((وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)) والطاغوت: هو الذي نصّبوه لتلقي العقائد، أو للتحاكم عند النزاع وعند الخلاف غير الكتاب والسنة؛ فطاغوت الم