[إشارة ابن تيمية إلى كلام السلف في إمرار الصفات كما جاءت ومعنى ذلك]
وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الكتاب إلى هذا الموضوع في موضعين: الموضع الأول: فإن شيخ الإسلام رحمه الله عندما نقل أقوال السلف في الصفات قال: وروى أيضاً عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات؟ فقالوا: أمروها كما جاءت، وفي رواية: فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف.
وتخريجها موجود في كتب السلف المسندة.
فقولهم رضوان الله عليهم: أمروها كما جاءت، رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف، رد على الممثلة، والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون هم أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين.
وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور أمر جهم المنكر لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته، ليعرف الناس أن مذهب السلف كان خلاف ذلك.
الموضع الثاني: يقول: فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول.
والمفوضة يؤولون كلام الإمام مالك رحمه الله عندما سئل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم، وفي بعض الألفاظ: غير مجهول، قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فجاءوا إلى قوله: الاستواء معلوم، فقالوا: يقصد الإمام مالك أنه معلوم في كتاب الله، وهذا تأويل لكلامه، فإنه لم يقل: آية الاستواء معلومة، لو قال: آية الاستواء معلومة، لكان لهم وجهة في هذا، لكنه قال: الاستواء، يعني: الصفة معلومة، فهو لم يتحدث عن الآية؛ هذا أولاً.
وثانياً: إذا كان قصده أن آية الاستواء معلومة، فإن هذا تحصيل حاصل ليس فيه ثمرة؛ لأن الرجل عندما سأله ذكر له الآية: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، ثم قال: كيف استوى؟ ولهذا فإن قولهم تأويل باطل، وتعسف بالنصوص لا وجه له.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن قول مالك وقول ربيعة وهو ربيعة الرأي شيخ مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، موافق لقول الآخرين: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً، كيف يكون معلوماً وهم لا يفهمون له معنىً؟ بل يكون مجهولاً بمنزلة حروف المعجم، يعني: التي لا معاني لها مفردة، أب ت ث ج، فإنه لا فائدة فيها كحروف مفردة، وإنما تكون الفائدة إذا تركبت وكونت كلمة، وأيضاً فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنىً؛ لأنه إذا كان لا يفهم له معنىً فهذا بطبيعة الحال لا يمكن أن يكون له كيفية مفهومة لدى الشخص، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات، وسبق أن تحدثنا عن أقسام الصفات، وقلنا: إن الصفات باعتبار الأدلة تنقسم إلى صفات عقلية، وهي: ما يدل عليها العقل استقلالاً مع ورودها في الشرع، وصفات خبرية، وهي ما لا يدل عليها العقل استقلالاً، مثل صفة الوجه والاستواء، والنزول، والإتيان والمجيء، وغيرها.
قال: [فإن من ينفي الصفات الخبرية -يعني: مثل المتأخرين من الأشاعرة- أو الصفات مطلقاً -يعني: كالمعتزلة- لا يحتاج أن يقول: بلا كيف؛ لأنه ليس هناك شيء يثبته حتى يكون له كيف، وإنما ينفي الكيف من يثبت أمراً وهو المعنى] فمن قال: إن الله سبحانه ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان من مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر، يعني: كما يقول المفوضة؛ لأن المفوضة يقولون: السلف لا يثبتون الصفات كما هي في ظواهر النصوص، وإنما يقولون: إن ظواهرها غير مرادة، فينفون ظواهرها، وأما معانيها فلا يفهمون لها معنىً ويفوضونها إلى الله عز وجل، هكذا يتصورون.
ثم يقول: [وأيضاً فقولهم: أمروها كما جاءت، يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معان] كما سبق أن أشرنا، وقلنا: كيف جاءت؟ جاءت ألفاظاً عربية لها معان يمكن للإنسان أن يتدبرها، وهذه المعاني لا يمكن أن تشابه المخلوقين؛ لأنها منسوبة إلى الخالق، وقد تقرر عقلاً وشرعاً في حس المسلم أن الخالق غير المخلوق، وأنه لا يمكن أن يشابهه بأي وجه من الوجوه.
ثم قال: [فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معان، فلو كانت دلالتها منفية لكان الواجب أن يقال: أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير ال