[براءة الصحابة رضوان الله عليهم من المسائل الفلسفية والكلامية ونحوها]
المسألة الخامسة: هل أدرك الصحابة رضوان الله عليهم المسائل الفلسفية والكلامية والإشارات الصوفية التي وقعت في من بعدهم أم أنهم لم يعرفوها؟ الذين يرون أن الصحابة كانوا مفوضة -يفوضون معاني الأسماء والصفات ولا يفهمون لها معنى- يظنون أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا يفهمون للصفات معنى، وبناءً على هذا فإنهم لم يغوصوا في معانيها، وإنما جاء المتأخرون من المتكلمين والفلاسفة وأثروا العقيدة بمعقولاتهم التي جاءوا بها، وكذلك الصوفية أثروا الجانب الروحي في الإسلام بما جاءوا به من إشارات لطيفة ودقيقة في العبادات والإرادات لم يكن الصحابة رضوان الله عليهم على علم بها، وهذا الفهم باطل.
والجواب على هذه المسألة أن نقول: إن المسائل الفلسفية والكلامية وقعت بعدهم، فما كان فيها من الحق فلا شك أن الصحابة يعرفونه ويعتقدونه، وما كان من الباطل فلا شك أن الصحابة ينكرون الباطل حتى لو لم يعرفوا هذا الباطل المعين، فإن المنكرات لا يمكن للإنسان أن يحيط بها، وبناءً على هذا نقول: إن ما حصل من الباطل بعد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد يعلمونه وقد لا يعلمونه، مثل نفي العلو ومثل تأويل الصفات ومثل القول بقدم العالم، أو القول بأن البعث الجسماني لا يكون أبداً، وإنما يكون البعث بالأرواح، ونحو ذلك، فنقول: هذه المعاني الباطلة الضالة والتعبيرات التي تدل عليها قد يعلمها الصحابة أو قد لا يعلمونها، وهذا لا يضرهم في شيء؛ لأن هذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو مثل ما لا ينقض الوضوء، فلو قال لك إنسان: عدد لي ما لا ينقض الوضوء، فستعدد له أشياءً كثيرة لا تنقض الوضوء، وما ينقض الوضوء محصور، لكن ما لا ينقضه كثير، فمثلاً: لمس الورقة لا ينقض الوضوء، وشرب الماء لا ينقض الوضوء، والمسح بالمنديل لا ينقض الوضوء، ولو عددنا لاستغرقنا ليلة أو ليلتين فيما لا فائدة فيه من الكلام عما لا ينقض الوضوء، فالكلام لا ينقض الوضوء، ولمس الغترة لا ينقض الوضوء، ولمس الشعر لا ينقض الوضوء ولهذا ما لا ينقض الوضوء لا يمكن حصره.
ويمكن أن أذكر هنا كلام شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) فإنه علق على كلام ابن عقيل الحنبلي رحمه الله في نصيحته لمن أراد أن يشتغل بعلم الكلام وقد أحس في نفسه ذكاءً، فقال له: إن هذا الأمر لا ينفعك، فإن الصحابة ما كانوا يعرفون الجوهر والعرض ونحو ذلك، فعلق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذه العبارة فقال: قلت: (قول القائل: إن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا وما عرفوا ذلك فيه تفصيل، وذلك أن هذا الكلام فيه حق وباطل) أي: أن الكلام الذي حصل بعد الصحابة مشتمل على حق وباطل.
قال: (أو أن هذا الكلام) يعني: الذي أشار إليه المتكلم.
قال: (قد يراد به حق وقد يراد به باطل، فأما الباطل فهو مثل إثبات الجوهر الفرد وطفرة النظام وامتناع بقاء العرض زمانين، ونحو ذلك، فقد لا يخطر ببال الأنبياء والأولياء من الصحابة وغيرهم، وإن خطر ببال أحدهم تبين له أنه كذب، فإن القول الباطل الكذب هو من باب: "ما لا ينقض الوضوء" ليس له ضابط، وإنما المطلوب معرفة الحق والعمل به، وإذا وقع الباطل عرف أنه باطل ودفع) أي: أنه لا يشترط للإنسان أن يعرف كل باطل، لكن يشترط أن يعرف كل حق يمكن أن يعرفه، أو يعرف القدر الواجب منه.
قال: (وصار هذا كالنهي عن المنكر وجهاد العدو، فليس كل شيء من المنكر رآه كل من الصحابة وأنكروه) أي: أنهم لم يروا كل منكر، فالصحابة لم يروا القنوات الفضائية، ولا يعني هذا أنه ليس بمنكر، بل إنه منكر، ولا يعني أيضاً أنه نقص في علم الصحابة بالحق؛ لأن الحق كانوا يعرفونه.
قال: (وهكذا المقالات الفلسفية والكلامية والإشارات الصوفية التي وقعت بعدهم.
ومع هذا فلا يقطع على كل من الصحابة بأنهم لم يعرفوا أمثال هذه الأقاويل ويعرفوا بطلانها، فإنهم فتحوا أرض الشام ومصر والمغرب والعراق وخراسان، وكان بهذه البلاد من الكفار والمشركين والصابئة وأهل الكتاب من كان عنده من كتب أهل الضلال والفلاسفة وغيرهم ما فيه هذه المعاني الباطلة، فربما خوطبوا بهذه المعاني بعبارة من العبارات وبينوا بطلانها لمن سألهم، والواحد منا قد يجتمع بأنواع من أهل الضلال ويسألونه عن أنواع من المسائل ويوردون عليه أنواعاً من الأسئلة والشبهات الباطلة فيجيبهم عنها، وأكثر الناس لا يعلمون ذلك ولا ينقلونه، والشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة قد ناظروا أنواعاً من الجهمية أهل الكلام وجرى بينهم من المعاني ما لم ينقل، ولكن من عرف طرق المناظرين لهم والمسائل التي ناظروهم فيها علم ما كانوا يقولونه، كالفقيه الذي يعرف أن فقيهين تناظرا في مسألة من مسائل الفقه مثل مسألة قتل المسلم بالذمي، أو القتل بالمثقل ونحو ذلك، فينقل المناظرة من لم يفهم ما قالاه، فيعرف الفقيه الفاضل مما نقل ما لم ينقل).
والشيء كما تعلمون يعرف بالشيء، والشاهد من هذا القول هو