المسألة الرابعة: هل تكلم الصحابة رضوان الله عليهم في باب الصفات كلاماً كافياً وشافياً أم أنهم لم يتكلموا في ذلك؟ والجواب على هذا أن نقول: إنهم تكلموا بكلام كاف شاف يدل عليه عدة أمور: الأمر الأول: واقع الآثار الموجودة في كتب التفسير وفي كتب العقائد المسندة التي نقلت بالأسانيد الصحيحة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: يستحيل أن يسكت الصحابة رضوان الله عليهم عن بيان العقيدة الصحيحة أيضاً، ووجه استحالة ذلك هو أنه إن سكتوا فإنا نقول: إما أن يسكتوا لجهلهم بالعقيدة أو يسكتوا لأنهم قالوا الباطل فيها والعياذ بالله! فأما سكوتهم للجهل بالعقيدة فهذا لا يمكن أن يتصور من جيل الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنهم كانوا أحرص الناس على الخير، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:(من أسعد الناس بحسن شفاعتك يا رسول الله؟ فيقول: لقد علمت أنك ستسألني عن ذلك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بحسن شفاعتي من قال: لا إله إلا الله، مخلصاً من قلبه).
وأبو هريرة أيضاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر فيسكت، ثم يقرأ بعد ذلك، فسأله عن هذه السكتة.
فلا يمكن أن يحرص الصحابة على الأمور الصغيرة فيسألون عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسألونه في الأمور الكبيرة، وهم أعلم الأمة -ولا شك- بقضايا الدين وأعلمهم أيضاً بقضايا العقيدة على وجه الخصوص؛ لأنهم لما تمثلوها علماً وعملاً نصرهم الله سبحانه وتعالى.
وأما قولهم بالباطل فإنه لا يمكن أن يقولوا بالباطل؛ لأن الصحابة أنصح الناس لهذه الأمة، ولا يمكن أن يجتمعوا على باطل، وإن من عرف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وزكاء قلوبهم وطيب نفوسهم وأخلاقهم وحرصهم رضوان الله عليهم على نشر الدعوة والدين، وبذل أنفسهم في سبيل الله، يعلم أنه لا يمكن أن يتصور مع هذه القرائن جميعاً أن يقولوا الباطل ويكذبوا على الله عز وجل وعلى رسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وحينئذ نقول: الصحابة رضوان الله عليهم هم أعلم الناس بالعقيدة الصحيحة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأدلة التي سبق أن أشرنا إليها هي أدلة برهانية يقينية يحتج بها أهل السنة، ويقبلها كل إنسان يريد الحق، لكن المعاند لو جئت له بالنهار لقال لك: إنه ليل.
والعياذ بالله! فالمعاند ليس له دواء إلا السيف، لكن طالب الحق الذي لا يكون متبعاً لهواه سيدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين العقيدة بياناً كافياً، وأن الصحابة رضوان الله عليهم قد بينوها بياناً كافياً واضحاً، ولهذا لم يحصل الاختلاف بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قضايا الاعتقاد، ولا وقع في أصول الأحكام أبداً، وإنما وقع الخلاف بينهم في أمور فقهية محتملة؛ وذلك إذا كان النص يحتمل مجموعة من المعاني، ثم إن الله عز وجل يرزق البعض حفظاً أو فقهاً أقوى من البعض الآخر، وحينئذ قد يقع البعض في الخطأ والبعض الآخر يقع في الصواب، فهذه هي حدود دائرة الاختلاف التي وقع فيها الصحابة رضوان الله عليهم، أما العقائد وأصول الأحكام فإنه لم يقع فيها خلاف ألبتة.