[بيان أن أهل البدع لم يعلموا العلم الشرعي وإنما درسوا عند اليهود والنصارى]
والذي يدل على صحة هذا التحليل الذي أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله هو: أن طريقة الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وغيرهما من الفلاسفة في التلقي والمناقشة وفي استمداد الأفكار ليست كطريقة عامة المسلمين في زمانهم، فإن عامة المسلمين في زمانهم كانوا يتفقهون على النصوص الشرعية ويدرسونها، وقد يختلفون في فهمهم لنص من النصوص، ولكن الطريقة التي ابتدعها هؤلاء هي أنهم كانوا يدرسون على اليهود وعلى النصارى، -كما كان يدرس الفارابي - ومع وجود أئمة السنة وعلمائها في ذلك الزمان فقد كانوا يرون أن هؤلاء ليسوا من أهل العلم، وأنهم سطحيون وسذج لا يفهمون شيئاً، وأن العلم الحقيقي هو دراسة العلوم الإنسانية الموجودة عند اليهود والنصارى والوثنيين والفلاسفة والمشركين، فكونوا من خلال هذه الدراسات عقيدة جديدة، ثم أتوا إلى النصوص الشرعية فتلاعبوا بها بالتأويل، حتى توافق المعتقد الجديد الذي كونوه بتلك الطريقة الجديدة من الدراسة.
فكلام شيخ الإسلام ابن تيمية هذا كلام دقيق، وهو رحمه الله قد سبر حال هؤلاء وعرف طريقتهم في الدراسة والتلقي، وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله في كتابه الرد على الزنادقة والجهمية أن الجهم بن صفوان أصلاً لم يكن معروفاً بطلب العلم النبوي الصحيح وعلم الإسلام، ولم يحفظ القرآن والسنة ثم طلب العلم وحصل له الانحراف بعد ذلك، فلم يعرف بهذا، وإنما عرف بذهابه إلى السمنية، وهم طائفة من فلاسفة الهنود، وكانوا لا يؤمنون إلا بالحسيات التي يمكن للإنسان أن يشعر بها، مثل الرؤية والسماع والتذوق والشم واللمس، وأما الغيبيات فكانوا لا يؤمنون بذلك، وكانوا يرون أنها خرافات وأوهام يتصورها الناس وهي لا حقيقة لها -وما زال جزء من الفلاسفة الآن في الغرب يدينون بهذه الفكرة التي كانت عليها هذه الطائفة- فلما جلس معهم الجهم بن صفوان شككوه وقالوا: إلهك هذا الذي تعبده هل ذقته؟ هل لمسته؟ هل رأيته؟ هل شممته؟ هل سمعته؟ فأجاب بالنفي في كل سؤال من هذه الأسئلة، قالوا: إذاً ليس لك إله، فاعتكف في بيته أربعين يوماً لا يصلي، ولا يشهد الصلاة مع المسلمين، ثم خرج على الناس يفكر بما هو مخزون ذاكرته، ولم تكن مادة تفكيره القرآن والسنة وغير ذلك، وإنما كانت مجرد الفهم الذي يتصوره، فخرج إلى الناس وقال: إلهي هو هذا الهواء ليس له اسم ولا صفة، وكون هذه الطائفة الجهمية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:[وكان الجعد هذا فيما قيل من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة، بقايا أهل دين النمرود، والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم].
وهؤلاء الصابئة كانوا من أهل السحر، والذي يعرف كتب السحر يجد أنهم دائماً يرددون نفس الكلمات التي يرددها أولئك الصابئة، مثل كلمة الروحانيات مثلاً، وتجد أن كثيراً من كتب السحر دائماً ترتبط بالكواكب السبعة مثلاً، أو بالأجرام السماوية، أو بتصور تأثير هذه الأجرام على الحوادث الأرضية، فكان الصابئة من أهل السحر كما كان اليهود من أهل السحر أيضاً.