[الرد على دليل تعدد القدماء بأنه استعمل مصطلحات لم ترد في الكتاب والسنة]
الرد الثالث: هو أن نقول: إن كلمة (قديم) وكلمة (حادث) مصطلحات جديدة لم ترد في الكتاب ولا في السنة، فإن الله عز وجل لم يصف نفسه في القرآن بأنه قديم، ولم يصف الرسول صلى الله عليه وسلم ربه بأنه قديم، ولا يصف بأنه حادث.
فهذه المصطلحات الجديدة لا يصح أن نقبلها بإطلاق، ولا أن نردها بإطلاق؛ لأن هذه المصطلحات بحسب ما يدخل فيها من المعنى الاصطلاحي، فإن كان حقاً كله قبلناه كله، وإن كان فيه حق وباطل قبلنا الحق ورددنا الباطل.
وعلى كل اعتبار فإنه لا يصح أن يستخدم في الأمور الغيبية إلا المصطلحات الشرعية، وهذه المصطلحات الحادثة لا يصح استخدامها، وهذه إحدى الأوجه الطويلة التي رد بها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على قانون الرازي الذي يرد فيه الشرع إذا خالفه العقل، في المجلد الأول من (درء التعارض) ولو رجعتم إليه ستجدون أنه فصل الكلام في هذا الموضوع الحساس والمهم تفصيلاً طويلاً.
وكذلك أشار إلى هذا المعنى في (التدمرية) أيضاً، وفي غيرها من الكتب، فهو يشير وينبه إلى ضابط استعمال هذه المصطلحات مثل: قديم، حادث، متحيز، جوهر، عرض، جزء، تركيب.
والتوحيد له عندهم مفهوم وله عندنا مفهوم، والإله له مفهوم عندنا، وله مفهوم عندهم، وهكذا، فهذه مجموعة من المصطلحات يقول ابن تيمية رحمه الله: لا يجوز أن تقبل هذه المصطلحات مطلقاً لأنك قد تقبل جزءاً من الباطل، ولا تردها مطلقاً لأنك قد ترد جزءاً من الحق، وحينئذ مثل هذه المصطلحات ننظر لها من جهتين: من جهة اللفظ، ومن جهة المعنى.
فأما من جهة اللفظ: فلا نقبل مصطلحات جديدة في النصوص الشرعية الغيبية التي لم نرها بأعيننا، وإنما أخبرنا الله عز وجل عنها في القرآن الكريم، وأخبرنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية، ويكفينا ما في القرآن والسنة من المصطلحات، فنحن في غنى عن هذه المصطلحات، والغني لا يطلب الصدقة، نحن لا نطلب من أحد أن يتصدق علينا بمصطلحات، حتى نمارس هذا العلم الشريف الذي هو علم التوحيد.
وأما من جهة المعنى: فإن هذا المعنى نستفصل صاحبه عنه، فإذا قال لك مثلاً: هل تثبت أن الله جسم؟ بعض الناس يقول: لا أقول: إن الله جسم مطلقاً، وهذا خطأ؛ لأنه هو يعتقد أن إثبات العلم تجسيم، وأن إثبات اليدين تجسيم، فيلزمك بنفي الصفات، وحينئذ الطريقة الصحيحة هي أن نقول: ماذا تعني بكلمة جسم؟ إن كنت تعني بالجسم معناه اللغوي -ومعنى الجسم في اللغة: البدن أو الجسد- فنحن نقول: إن هذا لا يوصف به الله عز وجل؛ لأن هذا فيه مشابهة للمخلوقين، وهذا أمر ظاهر، وإن كنت تعني بالجسم الموصوف بالصفات، فلاشك أن الله موصوف بصفات، ونحن لا نقول: إن الله جسم؛ لأن هذه كلمة لم تستخدم في القرآن والسنة.
فهؤلاء لا يأتون بهذه الكلمات مثل: جسم متحيز جهة بمعانيها اللغوية، وإنما يأتون بمعان اصطلاحية محددة يضعون هذه الكلمات عليها، فهم يقولون: الجسم هو الذي يقبل التجزئة والانقسام، فيسمون هذا جسماً مع أن هذا لا يسمى جسماً في لغة العرب، فالكتاب لا يسمى جسماً وإنما يسمى كتاباً، لو أن أحدكم مثلاً: جاء وقال: جسم سيارتك ممتاز لما كان سائغاً في لغة العرب؛ لأن كلمة (جسم) في لغة العرب معناها: البدن.
إذاً لا يصح استخدام كلمة (جسم) من جهة اللفظ ومن جهة المعنى على نحو ما سبق.
وهكذا إذا قلنا: إن الله في العلو، قالوا: هل تثبت أن الله في جهة؟ فنقول: الجهة كلمة جديدة، فماذا تعني بكلمة جهة؟ هل تعني بالجهة أن الله في العلو؟ إذا قال: نعم، الجهة أن الله في العلو، نقول: لقد نص الكتاب والسنة على أن الله في العلو، وهذا ما تثبته الفطرة والعقل، فأنا أصف الله بالعلو.
وإن كان لا يقصد هذا المعنى، فنقول: هل تعني أن الله محصور ومحدد في مكان فقط؟ فهذا لا يصح؛ لأن الله عز وجل فوق العالم، وهو سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه، ولا يقال إنه محصور في جهة، وهذا لا يجوز استخدامه في وصف الله عز وجل.
إذاً: نأتي إلى المعتزلة في موضوع تعدد القدماء ونقول: ماذا تعنون بالقديم؟ هل تعنون بالقديم الأول فليس قبله شيء؟ فإذا قالوا: نعم، قلنا: نعم، الله عز وجل هو الأول فليس قبله شيء، وهو منذ كان موصوف بالصفات، ولا مانع من وصفه بالأول وأيضاً وصفه بسائر الصفات.
وإن كنتم تقصدون بقديم أنه ليس موصوفاً بالصفات، فنقول: هذا فهم باطل؛ لأن لله عز وجل وصف نفسه بالصفات، ولا يمكن أن يصف نفسه بالباطل، ولو كان الحق هو المعنى الغامض الذي جئتم به، وهو أن له علماً وعلمه هو ذاته، وأنه سميع وسمعه هو ذاته لنص عليه القرآن.