[المفوضة تقدح في منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم]
توقفنا عند موضوع مذهب أهل التفويض، وبطلان مقالة: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وارتباط هذه المقالة بما سبق الحديث عنه من أن منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم معصوم، والمقصود بمنهج السلف، يعني: ما أجمعوا عليه، واتفقوا عليه من العقائد، وطريقة النظر، وطريقة الاستدلال، وتمييز الأحكام بعضها عن بعض، هذه الطريقة المجمع عليها معصومة، لا يتطرق إليها البطلان بأي وجه من الوجوه، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم وضح قضايا العقائد من حيث المسائل، ومن حيث الدلائل توضيحاً كافياً، ومغنياً عن الرجوع إلى غير طريقته عليه الصلاة والسلام، وهكذا أصحابه الكرام رضوان الله عليهم تكلموا في قضايا العقائد، ولا يمكن بأي وجه من الوجوه أن يكون الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم يجهلون الحق في هذه المسألة، كما أنهم لا يمكن أبداً أن يكونوا قد عرفوا العقائد الصحيحة وكتموها عن الناس، ولم يوضحوها لهم، فإن من عرف حال القوم، وجهادهم في سبيل الله، وإتباعهم لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك إدراكاً جازماً أن هؤلاء لا يمكن أبداً أن يعرفوا الحق ثم يكتموه، ولو جاز ذلك عقلاً من واحد لما جاز من الجميع كما هو معلوم.
ولهذا تطرق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى الذين يقدحون في السلف، وإلى الذين يتكلمون فيهم، ويذمون السلف الصالح رضوان الله عليهم، وذكر هذه المقالة، وهؤلاء القوم -أعني: المفوضة- هم طائفة من الطوائف التي تقدح في علوم السلف، وتقدح في مناهجهم، أما الذين يقدحون في علوم السلف فهم كثر، يمكن أن نذكر رءوس أقلام في هذا، منهم الشيعة الذين يسبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويكفرونهم، ويطعنون في أمانتهم وفي عدالتهم.
ومنهم أيضاً الذين يتعصبون للأئمة في المسائل التي تكون متعلقة بالفروع حتى لو خالفوا طريقة السلف رضوان الله عليهم، أو خالفوا بعض فتاوى الصحابة الذين هم أشهر منهم، ومنهم الذين يقدحون في منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم ويقولون: إنه منهج قديم، وإنه منهج تقليدي، وإنه لا يصلح أن يواكب الحضارة المعاصرة التي تقدمت اليوم من الناحية المادية، ومن ناحية التكنولوجيا، ويرون أن هذا منهج قديم لا يصلح لمواكبة العصر، ولا بد من هدم هذا المنهج وبناء مناهج حداثية جديدة تختلف عنه.
ومنهم من يذم السلف ويقول: إن هؤلاء فرقوا الأمة، ومزقوها، وجعلوها شيعاً وشعباً وأنواعاً، وقدح بعضهم في بعض بسببهم، ولا شك أن مثل هؤلاء من أهل الظلم والعدوان على فضلاء هذه الأمة الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون، كما قال عليه الصلاة والسلام: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، ثم بعد ذلك ذم من يأتي من القرون بعدهم.
ولهذا لا تجد أحداً يقدح في علوم السلف وفي منهج السلف وهو على السنة أبداً، فلا يقدح فيهم إلا من يكون زائغ الاعتقاد بأي وجه من وجوه الزيغ، فالذين يقولون: إن علوم السلف ومناهج السلف الصالح رضوان الله عليهم تفرق الأمة وتمزقهم، هؤلاء ما عرفوا هذه العلوم ولا أدركوها، ولم يعلموا أن السلف الصالح رضوان الله عليهم يتبعون الحق في كل مكان، وفي كل مسألة يجتهدون فيها وفي البحث عنها.
ثم الذين يخالفون الحق ليسوا سواءً بل هم أنواع، منهم من يخالف الحق فيقع في الكفر المبين، ومنهم من يخالف الحق فيقع في البدعة المضلة، ومنهم من يخالف الحق فيقع في المعصية، ومنهم من يخالف الحق بأي وجه من الوجوه، ولهذا لم يحكم السلف رضوان الله عليهم على كل من خالف طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم واحد، بل تقوم هذه المخالفة تقويماً شرعياًَ ثم يحكم عليها، ولهذا عندما تحدثوا عن الفرق الضالة قديماً سموا أصحابها أصحاب المقالات، ومعنى أصحاب المقالات: الذين لهم أقوال يخالفون بها الحق، ثم يبينون حكم هذه الأقوال، وأنها تختلف، وأنها ليست حكماً واحداً.
فمذهب أهل التفويض هؤلاء هو القدح في علم السلف رضوان الله عليهم، وجعلهم أناساً سطحيين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وأنهم كالصالحين العوام السذج، الذين فيهم غفلة، وفيهم سطحية، ولا يفهمون الكلام بسرعة، ونحو ذلك من الصفات التي ألصقوها بهم كما سيأتي معنا إن شاء الله.
وجعلوا طريقة المتأخرين من أهل الكلام الذين خلطوا علوم الإسلام بالفلسفة اليونانية، واخترعوا دلائل أخرى لقضايا الاعتقاد، خالفوا بها الكتاب والسنة، جعلوا طريقة هؤلاء المتأخرين خيراً من طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم.