ولا يتصور أن أي إمام من الأئمة الأعلام, مهما بلغ من العلم, والحفظ, والضبط, والإتقان, يستقل بالحكم على الشيء, ويستبد برأيه, ويفرضه على الآخرين من أتباعه فرضاً, ولا يجد لنفسه دليلاً بمثل قوله تعالى: {نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف: ٧٦].
وأمام عينيه كلام الله جل شانه في قوله: {قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: ٨٥].
وإنني مع شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في خلاصة قوله في كتابه القيم "رفع الملام عن الأئمة الأعلام": أن الأئمة كانوا أبعد من أن يتصفوا بهذه الصفة من الاستبداد بالرأي, وفرضه على الآخرين. وكانوا يدورون حيث دار الحق بكل أمانة وإخلاص، حسب فهمهم, وما وصل إليه علمهم. فالحق ليس محصوراً في رأي أحد قطعاً, إلا النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم [فيما يبلغ عن ربه جل وعلا].
ويتضح من ذلك أن اجتهاد المجتهد ورأيه لا يمكن أن يكون بمثابة حكم الله عز وجل، ولو كان كذلك لما ساغ لأتباع الأئمة أن يخالفوا آراء شيوخهم.
وهكذا كان الفقه الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخير في ازدهار مستمر، ونمو متواصل، وتقدم دائم.
وكانت اجتهاداتُ الأئمةِ بين الأخذ والعطاء، والرد والقبول, حتى في أوساط أصحابهم، حتى إن تلامذة الإمام أبي حنيفة لم يتركوا من أقواله في المذهب إلا أقلَّ من ٣٠% وأصبح المذهب من كلام الأتباع, بل وأتباع من جاء بعدهم بأزمان!
وكذلك كان الأخذ والرد بينهم وبين خصومهم, حيث يرجع بعضهم أحياناً إلى رأي غيره, والحادثة المشهورة عن رجوع الإمام محمد بن الحسن الشيباني الحنفي إلى مذهب أصحاب الإمام مالك في عدد من المسائل معرفة مشهورة.