وعلى كل حال فإن السماع في الحالين: الانتخاب والاستيعاب، يكون له سلبيات وإيجابيات، ذكرها الأئمة في أكثر من مناسبة. ومن هنا جاء في ذم كتابة الحديث على وجهه، قولهم: فلان حاطب ليل. يعني بذلك يكتب الحديث دون انتخاب. كما جاء أيضا الثناء مثل قولهم: إذا كتبت فقمش وإذا حدثت ففتش. يعني عليك أن تكتب كل ما لدى الشيوخ من الأحاديث دون انتخاب، وإذا أردت أن تحدث فعليك التفتيش لما تحدث به.
وشرح ذلك مستوفى في كتب المصطلحات، لا سيما في كتاب الخطيب (الجامع لأخلاق الراوي).
ومثل هذه الجوانب التاريخية المتصلة بتلقي الأحاديث وكتابتها لا زالت مجهولة لدى فئة كبيرة من الباحثين، وهي بحاجة إلى دراسة علمية متخصصة لبلورتها، لما في ذلك من فوائد جمة. ومشكلتنا تكمن في جهلنا تاريخ أئمتنا السابقين في جانب عنايتهم بتلقي الحديث وكتابته وضبطه التي كانت محل تطور عبر العصور الماضية حسب مستجداتها وأعرافها العلمية. وكانت عنايتهم هذه حرصا منهم - سواء كانوا متأخرين أو متقدمين - على أن يتم نقل الحديث من شخص إلى شخص أو يتم نقل الكتاب من شخص إلى شخص، وهو بعيد عن جميع احتمال التصحيف والتحريف والانتحال. وقد بذلوا جميعا ما في وسعهم في سبيل حماية السنة حسب مقتضيات عصورهم، ورحمهم الله تعالى، وجزاهم عنا أحسن جزاء، ولو لم ينهضوا - سواء في عصور الرواية أو في عصور ما بعد الرواية - بمقتضيات عصورهم لوقعت في السنة تحريفات وتصحيفات وأوهام وافتراءات، وقد شرحنا ذلك في كتاب الموازنة.
وأما الانتخاب لهدف نقدي فكتمييز الصحيح من الضعيف الغريب، قد يكون ذلك بوضع علامات خاصة على الضعيف الغريب ضمن المرويات التي تضمنتها نسخ المحدثين وأصولهم، كما ورد في حديث قتيبة عن الليث في جمع التقديم.