''هذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكا، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهما غائصا واطلاعا حاويا وإدراكا لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك، لما جعل الله تعالى فيهم من معرفة ذلك والاطلاع على غوامضه، دون غيرهم ممن يمارس ذلك. وقد تقصر عبارة المعلل منهم، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى، كما في نقد الصيرفي سواء، فمتى وجدنا حديثا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه، وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول: وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث''انتهى.
أما اليوم فيكثر المتكلمون في الحديث دون تأهلهم لذلك، ثم يتطاول بعضهم على نقاد الحديث بحجة كم ترك الأول للآخر.
هذا الذي ذكره الحافظ صحيح للغاية، بل يؤيده الواقع العلمي الذي نعيشه اليوم، ذلك لأنه إذا قارنا بين تصحيح كثير من المعاصرين وتصحيح النقاد وجدنا فرقا واضحا لا يمكن إنكاره، وهو أن المعاصرين يقولون عند التصحيح (إسناده صحيح) أو (رجاله ثقات)، وكذا من صحح الحديث من المتأخرين، بينما النقاد القدامى قالوا (حديث صحيح). هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المتأخرين على اقتناعهم التام بأنهم غير مؤهلين لإدراك العلل والشذوذ، كما أدركها النقاد الجهابذة الذين سبق وصفهم في سياق كلام الحافظ ابن حجر، لأن ذلك من اختصاصهم، وقد صرح المتأخرون أنفسهم بذلك في كتب المصطلح، وأما خلاف ذلك فلن تجد فيه نصا واحدا للأئمة، سوى خزعبلات بعض الباحثين الجدد وما ينسجه خيالهم.
والله إنه لأمر مستغرب ومؤسف أن يقول الباحث المعاصر عن الحديث الصحيح الذي اتفق على صحته النقاد أو الذي صححه أحد النقاد: