للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمقصود أن الحق إذا ظهر وعرف، ودعا دعاة البدعة إلى نحلتهم، قوبلوا بالعقوبة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: ١٦].

أما قول ابن العربي في الدفاع عن خوض العلماء مع المبتدعة واستعارتهم لمصطلحاتهم الكلامية "بأنهم أرادوا أن يُبَصَّرُوا الملاحدة، ويُعَرِّفُوا المبتدعة أن مجرد العقول التي يدعونها لأنفسهم، ويعتقدون أنها معيارهم لا حظَّ لهم فيها" (١)، فهو كلام يشعر بأن السلف قد خاضوا مع الخائضين في الجوهر والعرض وما إلى ذلك، وهذا غير صحيح، فإن السلف وإن كانوا أعرف الناس وأعلمهم، فإنهم سدُّوا للبدعة كل باب، فامتنعوا عن مجاراة أهل الكلام، وقد أحسن الإِمام الخطابي في تصوير هذا الموضوع في كتابه "الغنية عن الكلام" حيث قال: "واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام، وهذا النوع من النظر، عجزاً عنه، ولا انقطاعاً دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة وقد كان وقع في زمانهم هذه الشبه والآراء، وهذه النحل والأهواء، وإنما تركوا هذه الطريقة وأعرضوا عنها لما تخوفوه من فتنها، وحذروه من سوء مغبتها، وقد كانوا على بينة من أمرهم، وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله من توفيقه، وشرح صدورهم من نور معرفته، ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته، وتوقيف السنة وبيانها غناء ومندوحة عما سواها، وأن الحجة قد وقعت بهما، والعلة أزيحت بمكانهما، فلما تأخر الزمان، وقفت عنايتهم، واعترضهم الملحدون بشبههم، والمتحذلقون بجدلهم -حسبوا أنهم إن لم يردوا عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام، ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل، لم يظهروا في الحجاج عليهم، فكان ذلك ضلّة من الرأي، وغبناً فيه، وخدعة من الشيطان، والله المستعان" (٢).


(١) قانون التأويل: ٥٠٢.
(٢) عن صون المنطق والكلام للسيوطي: ١/ ١٣٩ - ١٤٠، وانظر نقل ابن تيمية لهذا الكلام في درء تعارض العقل والنقل: ٧/ ٢٨٦ - ٢٨٧.

<<  <   >  >>