الواسطة لترديد المناوئين للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخباره بالحشر والنشر كما جاء في قوله تعالى:{إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}[سبأ: ٧] بين الافتراء والأخبار حال الجنة: أي حال المجنون، وذلك لأن المراد بالثاني وهو الأخبار حال الجنة، غير الكذب لأنه قسيمه، وغير الصدق لأنهم لم يعتقدوه؛ لأنهم منازعون في الرسالة، فكيف يعتقدون مقاله، فإذا خرج عن كونه صدقاً لما ذكر، وعن كونه كذباً لأنه في مقابلته، فلم يبق حينئذ إلاَّ أنه قسم برأسه، فلا يكون صدقاً ولا كذباً، وبذلك تثبت الواسطة بين الطرفين المتضادين وهما الصدق والكذب.
والمذهب الجاحظي هذا قد ردَّه المفسرون واقتصروا في ردهم على إبطال دليله وذلك بأن المقصود: أم لم يفتر، لأن الافتراء أخص من الكذب، إذ هو الكذب عن عمد فحينئذ يكون القسمان مندرجين تحت الأعم وهو مطلق الكذب.
وهناك رد مختصر لطيف رد به الإِمام المازري (ت: ٥٣٦) علي الجاحظ استخرجه من قوله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النارِ"(١) قال رحمه الله: ودليل هذا الخطاب يرد عليهم لأنه يدل على أن ما لم يتعمد يقع عليه اسم الكذب".
وتحليل جوابه أنه عليه الصلاة والسلام أفصح العرب أخبر أن الكاذب عليه إن تعمد الكذب فليتبوأ مقعده من النار، ومن كذب ولم يتعمد فحكمه غير حكم الكاذب المتعمد فهو قد أطلق اسم الكاذب على المتعمد وغيره، وهو إطلاق واضح لا يحتمل وجهاً آخر ولو مع التكلف، وإذا أخذنا هذا في جانب الكذب، فالصدق لا يخرج عنه، إذ أنهما من واد واحد.
فما ادعاه الجاحظ من أن الكذب لا يكون كذباً، وكذلك الصدق إلاَّ إذا طابق الكلام الواقع والاعتقاد، أو خالفهما، ليس بشيء حيث أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم -
(١) أخرجه الإِمام مسلم في المقدمة ١/ ١٠ باب تغليظ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.