وعلامة من هذه صفته أن يحب أن يزار ولا يحب أن يزور، ويفرح بتقرب السلاطين والعوام إليه واجتماعهم على بابه، وتقبيل يده، فالعزلة بهذا السبب جهل، لأن التواضع لا يغض من منصب الكبير.
فإذا عرفت فوائد العزلة وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقاً بالتفضيل نفياً وإثباتاً خطأ، بل ينبغي أن ينظر إلى الشخص وحاله، وإلى الخليط وحاله، وإلى الباعث على مخالطته، وإلى الفائت بسبب مخالطته من الفوائد، ويقاس الفائت بالحاصل، فعند ذلك يتبين الحق ويتضح الأفضل.
فقد قال الشافعي رحمه الله: الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة للسوء، فكن بين القبض والبسط، ومن ذكر سوى هذا فهو قاصر، وإنما هو إخبار عن حاله، فلا يجوز أن يحكم بها على غيره المخالف له في الحال.
فإن قيل: فما آداب العزلة؟
قلنا: ينبغي للمعتزل أن ينوى بعزلته كف شره عن الناس، ثم طلب السلامة من شر الأشرار، ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين، ثم تجريد الهمة لعبادة الله تعالى أبداً، فهذه آداب بينة.
ثم ليكن في خلواته مواظباً على العلم والعمل، والذكر والفكر، فيجتنى ثمرة العزلة وليمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه وزيارته ليصفو وقته، وليكف عن السؤال عن أخبارهم، وعن الإصغاء إلى أراجيف البلد وما الناس مشغولون به، فإن جميع ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث في أثناء الصلاة، فوقع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض، وليقنع باليسير من المعيشة، وإلا اضطره التوسع إلى مخالطة الناس.
وليكن صبوراً على ما يلقاه من أذى الناس، ولا يصغي إلى الثناء عليه بالعزلة، ولا القدح فيه بترك الخلطة، فإن ذلك يؤثر في القلب فيقف عن السير في طريق الآخرة.
وليكن له جليس صالح يستريح إليه ساعة عن كد المواظبة، ففى ذلك عون على بقية الساعات، ولا يتم الصبر في العزلة إلا بقطع عن الدنيا، ولا ينقطع طمعه إلا بقصر أمله، فيقدر أنه إذا أصبح لا يمسي، وإذا أمسى لا يصبح، فيسهل عليه صبر يوم.