وأعلى هذه الخامسة: الحالة الأولى، وهى: الزهد، ووراءها حالة أخرى أعلى منها، وهى أن يستوي عنده وجود المال وعدمه، فإن وجده لم يفرح به، ولم يتأذ إن فقده، كما روينا عن عائشة رضى الله عنها أنها جاءها مال في غرارتين (١)،ففرقته في يومها، فقالت لها جاريتها: أما استطعت أن تشترى لنا مما قسمت لحماً بدرهم نقطر عليه؟ فقالت: لو ذكريني لفعلت.
فمن هذه حاله لو كانت الدنيا بحذافيرها في يده لم تضره، إذ هو يرى الأموال في خزانة الله تعالى، لا في يد نفسه.
وينبغى أن يسمى صاحب هذه الحالة المستغنى، لأنه غنى عن عند فقد المال وجوده جميعاً، ومتى كان الزاهد في الدنيا لا يرغب في وجودها، ولاعدمها، فهو في غاية الكمال.
قال أحمد بن أبى الحواري لأبى سليمان الدارانى: قال مالك بن دينار للمغيرة: اذهب إلى البيت فخذ الزكاة التي أهديتها لى، فإن الشيطان يوسوس لى أن اللص قد أخذها، فقال أبو سليمان: هذا من ضعف الزهد، هو قد زهد في الدنيا ما عليه من أخذها. فالهرب من المال والزهد فيه في حق الضعفاء كمال، فآما في حق الأنبياء والأقوياء، فسواء عليهم وجوده وعدمه. وقد يظهر القوى النفار من المال ليقتدي به الضعفاء في الترك، والله أعلم.
[١ ـ فصل في فضيلة الفقر وتفضيل الفقر على الغنى]
أما الآيات فقد قال الله تعالى في معرض المدح في حق الفقراء:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [البقرة: ٢٧٣]. وقال:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}. . . الآية [الحشر: ٨].
وأما الأخبار فكثيرة، منها: قول صلى الله عليه وآله وسلم: " قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء، إلا أن أصحاب الجد محبوسون " وذكر تمام الحديث. وهو في "الصحيحين".
(١) الغرارة: الجوالق وهو وعاء توضع به الدراهم. جمعها: غرائر.