قال رجل لبشر الحافي رحمه الله: أوصني، فقال: أخمل ذكرك، وطيب مطعمك. وقال: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب في الدنيا أن يعرفه الناس.
وقد روى في "صحيح مسلم" أن عمر بن سعد انطلق إلى أبيه سعد وهو في غنم له خارجاً عن المدينة، فلما رآه قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما أتاه قال: يا ابت أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره وقال: اسكت، إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:"إن الله يحب العبد التقى الغنى الخفي".
وعن أبى أمامة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضاً في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً، فصبر على ذلك" ثم نقر بيده، فقال:"عجلت منيته، قلت بواكيه، قل تراثه" حديث حسن.
وكان ابن مسعود رضى الله عنه يوصى أصحابه، فيقول: كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في السماء، وتخفون على أهل الأرض.
فإن قيل: هذا فيه فضيلة الخمول، وذم الشهرة وأي شهرة أكثر من شهرة الأنبياء، وأئمة العلماء.
قلنا: المذموم طلب الإنسان الشهرة، وأما وجودها من جهة الله تعالى من غير طلب الإنسان فليس بمذموم، غير أن في وجودها فتنة على الضعفاء، فإن مثل الضعيف كالغريق القليل الصنعة في السباحة، إذا تعلق به أحد غرق وغرقه، فأما السابح النحرير، فإن تعلق الغرقى به سبب لنجاتهم وخلاصهم.
[١ ـ فصل [في أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا]]
واعلم: أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا، ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها، ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها، وطاعتها، والتصرف فيها.