بنفسها، ولا بد لها من محرك. فالتفات العبد في النجاة إلى الريح يضاهى التفات من أخذ لتضرب عنقه، فوقع له الملك بالعفو عنه، فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد والقلم الذي كتب به التوقيع، ويقول: لولا هذا القلم ما تخلصت، فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم، وهذا غاية الجهل. ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه، شكر الكاتب دون القلم، وكل المخلوقات في قهر تسخير الخالق أبلغ من القلم في يد الكاتب، فسبحان مسبب الأسباب الفعال لما يريد.
[١ ـ فصل في بيان أحوال التوكل وأعماله وحده ونحو ذلك]
اعلم: أن التوكل مأخوذ من الوكالة، يقال: وكل فلان أمره إلى فلان، أي فوض أمره إليه، واعتمد فيه عليه.
فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الموكل، ولا يتوكل الإنسان على غيره إلا إذا اعتقد فيه أشياء: الشفقة، والقوة، والهداية. فإذا عرفت هذا، فقس عليه التوكل على الله سبحانه، وإذا ثبت في نفسك أنك لا فاعل سواه واعتقدت مع ذلك أنه تام العلم والقدرة والرحمة، وأنه ليس وراء قدرته قدرة، ولا وراء علمه علم، ولا وراء رحمته رحمة، اتكل قلبك عليه وحده لا محالة، ولم يلتفت إلى غيره بوجه، فإن كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك فسببه أحد أمرين:
إما ضعف اليقين بأحد هذه الخصال.
وإما ضعف القلب باستيلاء الجبن عليه، وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة علية، فإن القلب قد ينزعج ببقاء الوهم وطاعته له من غير نقصان في اليقين، فإنه من كان يتناول عسلاً، فشبه بين يديه بالعذرة، ربما نفر طبعه منه، وتعذر عليه تناوله.
ولو كلف العاقل أن يبيت مع الميت في قبر أو فراش أو بيت، نفر طبعه من ذلك، وإن كان متيقنا كونه ميتاً جماداً في الحال، ولا ينفر طبعه عن سائر الجمادات، وذلك جبن في القلب، وهو نوع ضعف قلما يخلو الإنسان منه، وقد يقوى ذلك حتى يصير مرضاً، حتى يخاف أن يبيت في البيت وحده مع غلق الباب وإحكامه.
فإذا لا يتم التوكل إلا بقوة القلب، وقوى اليقين جميعاً، فإذا انكشف لك معنى