والقول في سبب كونه حجابا يطول، فإذا ارتفع الحجاب بالموت، بقيت النفس وفيها نوع تلوث بالدنيا، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وقد صفوا عن الأكدار، تجلى لهم الحق سبحانه وتعالى على قدر معرفتهم في الدنيا.
فكل من لا يعرف الله تعالى في الدنيا، لا يراه في الآخرة. وما يستأنف لأحد في الآخرة مالم يصحبه في الدنيا، ولا يحصد أحد ما زرع، ولا يموت المرء إلا على ما عاش عليه، فما صحبه من المعرفة هو الذي يتنعم به بعينه، إلا أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء، فتضاعف اللذة، والعيش عيش الآخرة. {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}[العنكبوت: ٦٤].
وعيش الآخرة بقدر المعرفة، ولهذا جاء في الحديث:"خير الناس من طال عمره وحسن عمله" وذلك لأن المعرفة إنما تكمل وتكثر وتتسع في العمر الطويل بمداومة الفكر والذكر، والمواظبة على المجاهدة، والانقطاع عن علائق الدنيا، والتجرد للطلب، فقد عرفت بما ذكرنا معنى المحبة، ومعنى لذة المعرفة، ومعنى الرؤية ولذتها، ومعنى كونها ألذ من سائر اللذات عند أهل الكمال.
[٢ ـ فصل في بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى وتفاوت الناس في الحب وبيان السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله تعالى]
واعلم: أن أسعد الناس وأحسنهم حالاً في الآخرة أقواهم حباً لله تعالى، فإن الآخرة معناه القدوم على الله تعالى، ودرك سعادة لقائه. وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه، وتمكن من مشاهدته من غير منغص ولا مكدر، إلا أن هذا النعيم على قدر المحبة، فكلما ازداد الحب ازدادت اللذة.
وأصل الحب لا ينفك عن مؤمن، لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة، وأما قوة الحب واستيلاؤه، فذلك ينفك عنه الأكثرون، وإنما يحصل ذلك بشيئين:
أحدهما: قطع علائق الدنيا، وإخراج حب غير الله من القلب، فأحد أسباب ضعف حبه، قوه حب الدنيا، وبقدر ما يأنس القلب بالدنيا ينقص أنسه بالله، والدنيا