الجاهل، إذا كلف شربه ظنه بلاء، والعاقل يعده نعمه، وكذلك إذا احتاج الصبي إلى الحجامة، فإن الأب يدعوه إليها ويأمره بها، لما يلحظ في عاقبتها من الشفاء، والأم تمنعه من ذلك لفرط حبها وشفقتها، لكونها جاهلة بالمصلحة في ذلك، فالصبي يتقلد من أمه بجهله، ويأنس إليها دون أبيه، ويقدر أباه عدواً، ولو عقل لعلم أن الأم هي العدو الباطن في صورة صديق، لأن من منعها إياه من الحجامة يسوقه إلى أمراض أشد من ألم الحجامة، فالصديق الجاهل شر من العدو العاقل، وكل إنسان صديق نفسه، ولكن النفس صديق جاهل، فلذلك تعمل بما لا يعمل العدو.
[٨ ـ فصل في بيان كثرة نعم الله تعالى وتسلسلها وخروجها عن الحصر والإحصاء]
اعلم: أن النعم تنقسم إلى ما هو غاية مطلوبة لذاتها، وإلى ما هو مطلوب لأجل الغاية.
أما الغاية فهي سعادة الآخرة، ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور: بقاء لا فناء له، وسرور لا غم فيه، وعلم لاجهل معه، وغنى لا فقر بعده، وهى السعادة الحقيقية.
وأما القسم الثاني: فهو الوسائل إلى السعادة المذكورة، وهى أربعة أقسام:
أعلاها: فضائل النفس، كالإيمان، وحسن الخلق.
الثاني: فضائل البدن، من القوة والصحة ونحوهما.
الثالث: النعم المطيفة للبدن، من المال والجاه والأهل.
الرابع: الأسباب التي جمع بينها وبين ما يناسب الفضائل، من الهداية والإرشاد، والتسديد، والتأييد، وكل هذه نعم عظيمة.
فإن قيل: ما وجه الحاجة لطريق الآخرة إلى النعم الخارجة في المال والجاه ونحوهما؟
قلنا: هذه الأشياء جارية مجرى الجناح المباح، والآلة المستعملة للمقصود.
أما المال، فإن طالب العلم إذا لم تكن معه كفاية، كان كساع إلى الهيجاء بغير سلاح، ولأنه يبقى مستغرق الأوقات في طلب القوت، فيشغله عن تحصيل العلم، وعن الذكر، والفكر، ونحو ذلك.