وأما الجاه فيه يدفع عن نفسه الذل والضيم، ولا ينفك عن عدو يؤذيه، وظالم يهوش عليه، فيشغل قلبه، وقلبه رأس ماله، وإنما تدفع هذه الشواغل بالعز والجاه.
وأما الصحة والقوة وطول العمر ونحوها، فهي نعم، إذ لا يتم علم ولا عمل إلا بذلك.
وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"نعمتان مغبون فيهما كثر من الناس: الصحة، والفراغ".
ولما سئل: من خير الناس؟ قال:"من طال عمره وحسن عمله".
وأما المال والجاه، وإن كانا نعمتين، فقد ذكرنا ما فيهما من الآفات فيما تقدم، وأنهما ليسا بمذمومين على الإطلاق.
وأما الهداية والرشد والتسديد والتأييد، فلا خفاء في كونهما من أعظم النعم، فلا يستغني أحد عن الحاجة إلى التوفيق، ولذلك قيل:
إذا لم يكن عون الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
[٩ ـ فصل [من نعم الله الأسباب التي يتم بها الأكل]]
واعلم: أنا قد ذكرنا جملة من النعم، وجعلنا صحة البدن نعمة واحدة من النعم الواقعة في الرتبة الثانية، فلو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة، لم نقدر عليها، ولكن الأكل أحد أسباب الصحة، فلنذكر شيئاً من جملة الأسباب التي يتم بها الأكل على سبيل التلويح، لا على سبيل الاستقصاء، فنقول: من جملة نعم الله عليك أن خلق لك آلة الإحساس، وآلة الحركة في طلب الغذاء، فانظر إلى ترتيب حكمة الله تعالى في الحواس الخمس، التي هي آلة للإدراك.
فأولهما: حاسة اللمس، وهو أول حس يخلق للحيوان، وأنقص درجات الحس أن يحس بما يلاصقه، فإن الإحساس بما يبعد منه أتم لا محالة، فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك، فخلق لك الشم تدرك الرائحة من بعيد، ولكن لا تدرى من أي ناحية جاءت الرائحة، فتحتاج أن تطوف كثيراً حتى تعثر على الذي شممت رائحته،