ويقرب من هذا الغرور، غرور أقوام لهم طاعات ومعاصي، إلا أن معاصيهم أكثر، وهم يظنون أن حسناتهم ترجح، فترى الواحد منهم يتصدق بدرهم ويكون قد تناول من الغصب أضعاف ذلك، ولعل الذي تصدق به من المغصوب، ويتكل على تلك الصدقة، وما هو إلا كمن وضع درهما في كفه وألفاً في أخرى، ثم رجا أن يرجح الدرهم بآلف.
ومنهم من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه، وسبب ذلك أنه يحفظ عدد حسناته، ولا يحاسب نفسه على سيئاته، ولا يتفقد ذنوبه، كالذي يستغفر الله ويسبحه مائة مرة في اليوم ثم يظل طول النهار يغتاب المسلمين، ويتكلم بما لا يُرضى، فهو ينظر في فضائل التسبيح والاستغفار، ولا ينظر في عقوبة الغيبة والكلام المنهي عنه.
[١ ـ فصل [الاغترار واقع بالعلماء والعباد]]
ويقع الاغترار في الأغلب في حق أربعة أصناف:
العلماء، والعباد، والمتصوفة، والأغنياء.
[الصنف الأول: العلماء]
فأما أهل العلم، فالمغترون منهم فرق:
منهم فرق أحكموا العلوم الشرعية والعقلية، وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي، وإلزامهم الطاعات، واغتروا بعلمهم، وظنوا أنهم من الله بمكان، ولو نظر هؤلاء بعين البصيرة، علموا أن علم المعاملة لا يراد به إلا العمل، ولولا العمل لم يكن له قدر. قال الله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس: ٩] ولم يقل: قد أفلح من تعلم كيف يزكيها، فإن تلا عليه الشيطان فضائل أهل العلم، فليذكر ما ورد في العالم الفاجر، كقوله تعالى:{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}[الأعراف: ١٧٦]، و {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}[الجمعة: ٥].
ومنهم فرقة أخرى أحكموا العلم والعمل الظاهر، ولم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا الصفات المذمومة منها، كالكبر والحسد والرياء، وطلب العلو، وطلب الشهوة، فهؤلاء زينوا ظاهرهم، وأهملوا بواطنهم، ونسوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".