القوم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده، وما نصنع بعيش خير من هذا؟ وقالت طائفة قليلة: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه؟ وقد صدقكم في أول حديثه، فوالله ليصدقنكم في آخره. قال: فراح فيمن اتبعه، وتخلف بقيتهم فنزل عدو، فأصبحوا بين أسير وقتيل" (١).
وفى "الصحيحين" من حديث أبى موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما مثلى ومثل ما بعثتي الله به، كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعينى، وأنا النذير العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم، فنجوا، وكذبته طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم. فصبحهم الجيش في مكانهم، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من حق".
[٨ ـ فصل في بيان حقيقة الدنيا والمذموم منها والمحمود]
قد سمع خلق كثير ذم الدنيا مطلقاً، فاعتقدوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التي خلقت للمنافع، فأعرضوا عما يصلحهم من المطاعم والمشارب.
وقد وضع الله في الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها، فكلما تاقت منعوها، ظناً منهم أن هذا هو الزهد المراد، وجهلا بحقوق النفس، وعلى هذا أكثر المتزهدين، وإنما فعلوا ذلك لقلة العلم، ونحن نصدع بالحق من غير محاباة فنقول:
اعلم: أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة للإنسان، فيها حظ، وهى الأرض وما عليها، فإن الأرض مسكن الأدنى، وما عليها ملبس ومطعم ومشرب ومنكح، وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى الله عز وجل، فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح، كما لا تبقى الناقة في طريق الحج إلا بما يصلحها، فمن تناول منها ما يصلحه على الوجه المأمور به مدح، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنف الشره وقع في الذم، فإنه ليس للشره في تناول الدنيا وجه، لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى، ويشغل عن طلب الآخرة فيفوت المقصود، ويصير بمثابة من أقبل يعلف الناقة، ويرد لها الماء، ويغير عليها