مثال ذلك المريض الذي يعلم أن الفاكهة تضر في مرضه، فيعزم عزماً جزماً أن لا يتناول شيئاً من الفاكهة ما دام في مرضه ذلك، فإن هذا العزم يتأكد في الحال وإن كان يتصور أن تغلبه الشهوة في ثاني الحال، ولكن لا يكون تائباً ما لم يتأكد عزمه في الحال، ولا يتصور أن يتم ذلك للتائب في أول مرة إلا بالعزلة، والصمت وقلة الأكل والنوم، وإحراز قوتٍ حلال، ويترك الشبهات والشهوات من المأكولات والملبوسات.
قال بعضهم: من صدق في ترك الشهوة، وجاهد نفسه فيها سبع مرات، لم يبتل بها، وقال: من تاب من ذنب واستقام سبع سنين، لم يعد إليه أبداً.
[٦ ـ بيان أقسام العباد في دوام التوبة]
الناس في التوبة أربع طبقات:
الطبقة الأولى: تائب يستقيم على التوبة إلى آخر عمره، ويتدارك ما فرّط من أمره، ولا يحدِّث نفسه بالعودة إلى ذنوبه، إلا الزلات التي لا ينفك عنها البشر في العادات، فهذه هي الاستقامة في التوبة، وصاحبها هو السابق بالخيرات.
وتسمى هذه التوبة: النصوح، وتسمى هذه النفس: المطمئنة، وهؤلاء يختلفون منهم من سكنت شهوته تحت قهر المعرفة ففتر نزاعها، ومنهم من تنازعه نفسه وهو ملئ بمجاهدتها.
الطبقة الثانية: تائب قد سلك طريق الاستقامة في أمهات الطاعات وكبائر الفواحش، إلا أنه لا ينفك عن ذنوب تعتريه، لا عن عمد، ولكنه يبتلى بها في مجارى أحواله من غير أن يقدم عزماً على الإقدام عليها، وكلما أتى شيئاً منها لام نفسه، وندم وعزم على الاحتراز من أسبابها، فهذه هي النفس اللوامة لأنها تلوم صاحبها على ما يستهدف له من الأحوال الذميمة، فهذه رتبة عالية أيضاً، وإن كانت نازلة عن الطبقة الأولى، وهى أغلب أحوال التائبين، لأن الشر معجون بطينة الآدمى، فقلما ينفك عنه، وإنما غاية سعيه أن يغلب خيره شره، حتى يثقل ميزانه، فترجح حسناته، فأما إن تخلو كفة السيئات، فبعيد.
وهؤلاء لهم حسن الوعد من الله سبحانه وتعالى، إذ قال:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}[النجم: ٣٢] والى هذه الرتبة الإشارة